لقطة الحرم:
اللقطة: اسم للشيء الذي تجده ملقى فتأخذه( ). وينبغي أن يعلم أن حكم اللقطة في جميع بلاد الله أنه لا يحل التقاطها إلا لمن يعرفها سنة في مجامع الناس في الأسواق وعلى أبواب المساجد والجوامع وغيرها في الوقت الذي يجتمعون فيه.
ويجب على المتلقط أن يضبط ويعرف وعاؤها وعفاصها إن كانت من الدراهم والدنانير وإلا كل شيء بحسبه، فإن كانت ثياباً عرف لفافتها وجنسها ولونها ويعرف قدرها وإن كانت من الأشياء التي تضبط بالكيل والوزن والعدد والذرع فبما تضبط به.
ويتملكها بعد السنة إن لم تعرف، ويجوز له التصرف فيها بما شاء بشرط الضمان إذا جاء صاحبها يوماً من الدهر يطلبها، فإذا عرفها بعلاماتها وترجح أنه صاحبها رد إليها إن كانت موجودة بعينها وإلا ضمن له قيمتها أن تصرف فيها( ).
روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: {جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة، فقال: اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها، قال: فضالة الغنم؟ قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب. قال: فضالة الإبل؟ قال: مالك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها}( ).
وأما لقطة الحرم ومكة فهل حكمها كلقطة سائر البلاد؟
قال ابن قدامة:
ظاهر كلام أحمد والخرقي أن لقطة الحل والحرم سواء روى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وابن المسيب وهو مذهب مالك وأبي حنيفة.
وروى عن أحمد رواية: أنه لا يجوز التقاط لقطة الحرم للتملك، وإنما يجوز حفظها لصاحبها، فإن التقطها عرفها أبداً حتى يأتي صاحبها، وهو قول عبد الرحمن بن مهدي وأبي عبيد (القاسم بن سلام شيخ البخاري).
وعن الشافعي كالمذهبين.
والحجة لهذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم في مكة: {لا تحل ساقطتها إلا لمنشد} متفق عليه.
وقال أبو عبيد: المنشد، المعرف والناشد الطالب وينشد إصاخة الناشد للمنشد.
فيكون معناه: لا تحل لقطة مكة إلا لمن يعرفها لأنها خصت بهذا عن سائر البلاد.
وروى يعقوب بن شيبة في مسنده عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج. قال ابن وهب: يعني يتركها حتى يجدها صاحبها، رواه أبو داود أيضاً.
ووجه الرواية الأولى عموم الأحاديث أنه أحد الحرمين فأشبه حرم المدينة ولأنها أمانة فلم يختلف حكمها بالحل والحرم كالوديعة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إلا لمنشد} يحتمل أن يريد إلا لمن عرفها عاماً وتخصيصها بذلك لتأكيدها لا لتخصيصها كقوله عليه السلام: {ضالة المسلم حرق النار، وضالة الذمي مقيسة عليها} اهـ( ).
قلت: والذي نرجحه أن لقطة مكة والحرم لا يجوز التقاطها إلا لتعريفها أبداً بدون تملك بعد سنة أو سنين، فإن السياق يدل على هذا، فقوله صلى الله عليه وسلم: {ولا يلتقط لقطتها إلا لمنشد} ورد مورد بيان الفضائل المختصة بمكة كتحريم صيدها وقطع شجرها وإذا سوى بين لقطة الحرم وبين لقطة غيره من البلاد بقي ذكر اللقطة في هذا الحديث خالياً من الفائدة.
ولأن في بعض طرق الحديث: {ولا يلتقط لقطتها إلا معرف}، وفي بعضها: {إلا لمعرف}، وفي بعضها: {إلا لمن عرفها}( ).
وهذه صيغة الحصر، فأفادت دوام صفة التعريف بالملتقط، والله أعلم. ثم وجدت ابن جرير الطبري قد نصر هذا القول. فقال: وأما قوله: {ولا يلتقط لقطتها إلا لمعرف}، فإنه يقول القائل فيه: وهل لملتقط في غير الحرم التقاط لقطة لغير التعريف فيخص الحرم بأن لقطتها لا تحل إلا لمعرف؟
فيقال له: إن معنى ذلك بخلاف ما ظننت وإنما معنى ذلك: ولا يحل التقاط لقطتها إلا للتعريف خاصة دون الانتفاع بها وذلك أن اللقطة في غيرها لواجدها الانتفاع بها بعد تعريفها حولاً على أنه ضامنها لصاحبها إذا حضر، وليس ذلك لملتقطها في الحرم. وإنما له إذا التقطها فيها تعريفها أبداً من غير أن يكون له الانتفاع بها أو بشيء منها في وقت من الأوقات حتى يأتيه صاحبها.. فلما قال: إلا لمعرف أبان بذلك من قوله: إن لواجدها التقاطها للتعريف غير أنه لما كان من سنته عليه السلام في اللقطة يلتقطها في غير الحرم، أن لملتقطها الاستمتاع بها بعد تعريفها حولاً. وكان الحرم مخصوصاً لما خص به بتحريم ما أطلق في غيره من سائر البلاد غيره كتحريمه عضد شوكه وشجره وعضاهه وتنفير صيده كان الأغلب من نهيه عن لقطتها أن يلتقطها إلا المعرف أنه قد خصه من ذلك بما لم يعم به سائر البلاد غيره كما خصه في صيده وشجره وشوكه بما لم يعم به غيره من البلاد، فلم يكن له وجه يوجه إليه يصح معناه غير الذي قلناه: من أنه صلى الله عليه وسلم إذ أباح للمعرف التقاط لقطته ولم يطلق له الاستمتاع بها بعد تعريفه إياها مدة مؤقتة كما أطلق ذلك في لقط سائر البلاد وغيره أنه لا شيء له من التقاطها إلا التعريف وأنه إن أخذها ليسلك فيها سبيل لقط سائر البلاد غيرها في أنه إذا عرفها سنة أو ثلاث سنين أو أكثر من ذلك استمتع بها إن لم يأت صاحبها كان آثماً متقدماً على نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
نقل تراب الحرم وحجره إلى الحل وعكسه:
لم أعثر في هذا الباب على رواية مرفوعة مسندة، سوى أقوال بعض الصحابة والتابعين وفي أكثرها مقال. أذكرها بالحكم على أسانيدها. روى الأزرقي عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: أخبرني بعض من كنا نأخذ عنه أن ابن الزبير تقدم يوماً إلى المقام ليصلي ورآه فإذا حصى بيض أتى بها وطرحت هنالك فقال: ما هذا البطحاء؟ قال: قيل له: إنه حصى أتي بها من مكان كذا وكذا خارج من الحرم، قال فقال: القطوه وأرجعوه به إلى المكان الذي جئتم به منه، وأخرجوه من الحرم، وقال: لا تخلطوا الحل بالحرم( ). وإسناده ضعيف لا حجة فيه لأن فيه أحمد بن ميسرة وهو ضعيف، وفيه أيضاً شيخ عبد العزيز وهو مبهم.
وأخرج الأزرقي والفاكهي عنه أيضاً قال: سمعت غير واحد من الفقهاء يذكرون أنه يكره أن يخرج من الحرم من ترابه أو حجارته بشيء أو يخلط بعضه ببعض( ).
وهذا أيضاً لا حجة فيه لأنه ليس بثابت الإسناد إلى عبد العزيز لأجل راوية أحمد بن ميسرة.
وثانياً أنه رأى من الذين سمعه منهم ولم يذكر دليله، وذكر المحب الطبري عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما كرها أن يخرج من تراب الحرم وحجارته إلى الحل شيء، وقال: أخرجه الشافعي وقال: قال غير واحد من أهل العلم: لا ينبغي أن يخرج شيء من الحرم إلى غيره.
وقال أبو حنيفة: لا بأس به( ).
ورواية ابن عباس وابن عمر أخرجها الفاكهي والبيهقي من طريق محمد بن أبى ليلى( ) وهو ضعيف وما أظن يصح عنهما ولا عن أحد من الصحابة.
وروى الفاكهي عن عطاء أنه كان يكره أن يخرج تراب الحرم إلى الحل أو يدخل تراب الحل إلى الحرم( ) وذكر البيهقي عن الشافعي عن عبد الرحمن بن الحسن بن القاسم الأزرقي عن أبيه عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر (ابن كريز) قال: قدمت مع أمي أو قال جدتي مكة فأتتها صفية بنت شيبه فأكرمتها وفعلت بها، فقالت صفية: ما أدري ما أكافئها به فأرسلت إليها بقطعة من الركن فخرجنا بها فنزلنا أول منزل فذكر من مرضهم وعلتهم جميعاً، قال فقالت أمي أو جدتي: ما أرانا أتينا إلا أنا أخرجنا هذه القطعة من الحرم فقالت لي وكنت أمثلهم: انطلق بهذه القطعة إلى صفية وقال لها: إن الله قد وضع في حرمه شيئاً ينبغي أن لا يخرج منه قال عبد الأعلى فقالوا: فما هو إلا أن تحينا دخولك الحرم فكأنما أنشطنا من عقل( )، وهذا أيضاً لا حجة فيه، فيه مجاهيل عبد الرحمن بن الحسن بن القاسم وأمه أو جدته لم يعرفوا بجرح ولا تعديل.
وهذه هي أهم الروايات التي اطلعت عليها في هذا الباب وليس فيها شيء مرفوع ولا موقوف صحيح.
وقول عطاء وغيره من التابعين رأى واستحسان لهم رضي الله عن الجميع.
وذهب إلى الكراهة الإمام أحمد أيضاً.
قال البهوتي: قال الإمام أحمد: لا يخرج من تراب الحرم ولا يدخل إليه من الحل، كذلك قال ابن عمر وابن عباس، ولا يخرج من حجارة مكة إلى الحل، والخروج أشد يعني في الكراهة( ). وعليه ذهب النووي حيث قال: يكره نقل تراب الحرم وأحجاره إلى سائر البقاع( ).
وقال على القاري:
ويحرم على الأصح عند الشافعية وأكثرهم على الكراهة نقل تراب الحرم وحجره إلى غيره ولو إلى حرم المدينة كما يمنع نقل تراب حرم المدينة وحجره إلى غيره ولو إلى حرم مكة ويكره نقل تراب الحل إليه( ).
قلت: نقل تراب الحرم إلى الحل يكون لماذا؟ هل للتبرك به أو لغرض آخر. فإن كان للتبرك به فما أقبحه من بدعة في دين الله، فلا يجوز التبرك بتراب قطعة من الأرض بالتمسح به وحيازته.
وإن كان لغرض آخر فينظر هل هو مشروع أم غير مشروع فإن كان مشروعاً فلا كلام إذن في نقله، وإن كان لغرض غير مشروع فلا يجوز القيام به.
وأما نقل تراب الحل أو حجره إلى الحرم فإن كان لضرورة للحرم فالضرورة تبيح الأشياء وإن كانت محظورة. على أنه قد ثبت لنا أن السلاطين والملوك كانوا ينقلون من الشام وغيرها أحجاراً رخاماً وغيرها إلى المسجد الحرام، ولم ينقل عن أحد من أئمة السلف الإنكار عليه.
فإن كان لغير ضرورة فهنا تأتي الكراهة. والله أعلم.
وقد نقلت في هذه الأيام أحجار باردة من أقاصي الدنيا (يونان) وفرشت بها أرض المطاف وتسببت لراحة الطائفيين والعاكفين والركع السجود، وهذا من أفضل الأعمال التي قام بها المسئولون فجزاهم الله خيراً كثيراً.
وهناك رواية خلاف هذا ذكرها الأزرقي والفاكهي بإسنادهما وهي عن رزين مولى ابن عباس يقول: كتب إلى على بن عبد الله بن عباس أن أبعث إلي بلوح من حجارة المروة أسجد عليه( ).
وإسناده ضعيف لا حجة فيه لأن رزينا( ) مجهول.
ولو ثبت إسناداً لم يكن فيه حجة لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا أسبق الناس إلى الخير، ومع ذلك لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه فعل هذا، ولعل هذا أصل فعل الشيعة الذين يتعمدون السجود على الحجر ولا يسجدون على حصير أو ثوب أو زريبة.
مضاعفة أجر الصلاة في الحرم:
لا يجوز لمسلم أن يسافر ويشد رحله لقصد الصلاة وحصول الثواب إلى مسجد من مساجد الدنيا غير المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف والمسجد الأقصى.
وأما غيرها من البقاع فالسفر إليها بقصد الصلاة فيها والعبادة فحرام لا يجوز، روى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى} ( ). وأفضل هذه المساجد الثلاثة في الأجر والثواب هو المسجد الحرام. روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:- {صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام} ( ).
وروى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: صلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء ومسجده آخر المساجد.
قال أبو سلمة وأبو عبد الله: لم نشك أن أبا هريرة كان يقول عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعنا أن نستثبت أبا هريرة في ذلك الحديث، حتى إذا توفى أبو هريرة ذكرنا ذلك وتلاومنا أن لا نكون كلمنا أبا هريرة في ذلك حتى يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان سمعه منه، فبينا نحن على ذلك جالسنا عبد الله بن إبراهيم بن قارظ فذكرنا ذلك الحديث، والذي فرطنا فيه من نص أبي هريرة، فقال لنا عبد الله بن إبراهيم: أشهد أني سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فإني آخر الأنبياء وأنه آخر المساجد} ( ). وروى أحمد وابن ماجه وابن عبد البر عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف فيما سواه}. وإسناده صحيح، وفي بعض نسخ ابن ماجه {من مائة صلاة فيما سواه} ( ). وروى البزار ومن طريقة ابن عبد البر عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف، وفي مسجدي ألف صلاة. وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة}.
قال ابن عبد البر، قال البزار: هذا إسناد حسن، وحسنه الهيثمي أيضاً( ).
وأما ما جاء عند ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة}( ).
فضعيف لا حجة فيه لأن في إسناده أبا الخطاب الدمشقي واسمه حماد مجهول، قال الذهبي: ليس بمشهور ثم ذكر حديثه هذا وقال: هذا منكر جداً( ).
وفيه أيضاً رزيق أبو عبد الله الألهاني الحمصي، قال فيه أبو زرعة: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات وذكره في الضعفاء أيضاً، وقال: ينفرد بالأشياء التي لا تشبه حديث الإثبات. لا يجوز الاحتجاج بخبره إلا عند الوفاق( ).
وروى أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه والبزار وابن عبد البر من طريق عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صلاة في مسجدي..}.
{.. هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا}.
وفي رواية ابن حبان، {وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة}( ).
وثبت هذا الحديث موقوفاً أيضاً على ابن الزبير من قوله: رواه عبد الرزاق وابن عبد البر( )..
وقال ابن عبد البر:
واختلف في رفعه عن عطاء، ومن رفعه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحفظ وأثبت من جهة النقل، وهو أيضاً صحيح في النظر لأن مثله لا يدرك بالرأي، ولابد فيه من التوقيف، فلهذا قلنا: إن من رفعه أولى.
وقال أيضاً: ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه قوي ولا ضعيف ما يعارض هذا الحديث، ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم وهو حديث ثابت لا مطعن فيه لأحد إلا لمتعسف( ) وروى أحمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام} ( ).
قال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الكبير وإسناد الثلاثة مرسل، له في الطبران بإسناد رجاله رجال الصحيح وهو متصل( ).
وروى البزار عن ابن عمر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام}.
قال البزار: لا نعلمه عن ابن عمر عن أبي سعيد إلا بهذا الإسناد وإسحاق لا نعلم حدث عنه إلا عبد الواحد( ).
يريد به البزار أن إسحاق - بن شرقي) مجهول.
ولكن له طريق آخر صحيح أخرجه ابن حبان في صحيحه( ). وروى عبد الرزاق ومن طريقة أحمد عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله يقول: {صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف فيما سواه إلا مسجد الكعبة}( ).
وروى عبد الرزاق في مصنفه عن أبي هريرة أو عن عائشة (كذا بالشك) أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام} ( ).
وفي هذه الأحاديث الكثيرة المشهورة دلالة واضحة على ما أكرم الله به هذه المساجد الثلاثة من مضاعفة أجر الصلاة فيها، وأن الصلاة في المسجد الحرام تساوي في الأجر مائة ألف صلاة، فما أعظم هذه النعمة التي أنعم بها الله عز وجل على من يسر له الصلاة في المسجد الحرام، وينبغي لمن وفقه الله لمجاورة بيته الكريم أن لا يفرط في هذه النعمة العظيمة بترك الصلاة مطلقاً، أو بالتهاون فيها أو الاستغناء عن هذا الأجر العظيم.
وذكر الفاسي أن النقاش المفسر حاسب الصلاة بالمسجد الحرام على مقتضى حديث: أن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في سائر المساجد بمائة ألف صلاة، فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام عمر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة. وصلاة يوم وليلة وهي خمس صلوات في المسجد الحرام عمر مائتي سنة وسبعاً وتسعين سنة وتسعة أشهر وعشر ليال.
وقال الفاسي أيضاً:
رأيت لشيخنا بالإجازة الإمام بدر الدين أحمد بن محمد المعروف بابن الصاحب المصري الإشاري كلاماً حسناً في هذا المعنى لأنه قال: فيما أنبأنا به: أن كل صلاة بالمسجد الحرام فرادى بمائة ألف صلاة كما ورد في الحديث. وصلاة الرجل منفرداً في وطنه غير المسجدين العظيمين كل مائة سنة بمائة وثمانين ألف صلاة وكل ألف سنة بألف ألف صلاة وثمانمائة ألف صلاة.
فتلخص من هذا أن صلاة واحدة في المسجد الحرام جماعة يفضل ثوابها من صلى في بلده فرادى حتى بلغ عمر نوح عليه السلام نحو الضعف، وسلام على نوح في العالمين، وهذه فائدة تساوي رحلة.
ثم قال: هذا إذا لم تضف إلى ذلك شيئاً من أنواع البر، فإن صام يوماً وصلى الصلوات الخمس جماعة وجعل فيه أنواعاً من البر وقلنا بالمضاعفة، فهذا مما يعجز الحساب عن حصر ثوابه. أهـ( )، وهل هذه المضاعفة للصلاة في المسجد الحرام المحيط بالكعبة فقط أم تشمل الحرم كله ومساجد الحرم كلها؟ فيه اختلاف بناء على اختلاف العلماء في المراد بالمسجد الحرام في قوله صلى الله عليه وسلم: فقيل: مسجد الجماعة الذي يحرم على الجنب الإقامة فيه.
ويتأيد هذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: {صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام}، والإشارة بمسجده مسجد الجماعة فينبغي أن يكون المستثنى منه كذلك.
وقيل: المراد بالمسجد الحرام: الحرم كله، وقد ورد إطلاق المسجد الحرام على الحرم كله في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله}.
ولا شك أن إسراء النبي صلى الله عليه وسلم كان من بيت أم هانئ خارج المسجد المحيط بالكعبة.
وفي قوله تعالى: ((وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)) [الحج:25].
وفسر ابن عباس المسجد الحرام فقال: الحرم كله هو المسجد الحرام في قوله تعالى: ((ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) [البقرة:196]، ذكره ابن جرير في تفسيره من طريقين عن ابن عباس ولكن ليس له إسناد صحيح( ).
والذي يترجح لدي والله أعلم أن تضعيف الصلاة شامل للحرم ومساجد مكة كلها، وذلك لأنه قد ثبت الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما أحصر في الحديبية، ونفذت القضية، فلما فرغ من الكتاب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {يا أيها الناس..}..الخ( ).
وروى الفاكهي بإسناد صحيح أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه كان يضرب فسطاطاً في الحل وله مسجد في الحرم يصلي فيه( ).
ورواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن مجاهد بلفظ: {رأيت عبد الله بن عمرو بن العاص بعرفة ومنزله في الحل، ومصلاه في الحرم، فقيل له: لم تفعل هذا؟ فقال: لأن العمل فيه أفضل والخطيئة أعظم فيه}( ).
وسئل عطاء بن أبي رباح هذا الفضل في المسجد وحده أو في الحرم؟ قال: بل في الحرم لأنه كله مسجد( ).
وروى زاذان قال: [[مرض ابن عباس مرضاً شديداً فدعا ولده فجمعهم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من خرج من مكة ماشياً حتى يرجع إلى مكة - يعني في الحج - كتب الله له بكل خطوة سبع مائة حسنة، كل حسنة مثل حسنات الحرم، قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: بكل حسنة مائة ألف حسنة]]( ).
وهذا الحديث له طريق كثيرة كما يأتي ذكرها يرتفع بها إلى درجة الحسن. فيستدل به على فضيلة المشي في الحج أيضاً. كما يستدل به على تضعيف جميع حسنات الحرم الصلاة وغيرها. كما قال المحب الطبري: (وهذا الحديث يدل على أن المراد بالمسجد الحرام في فضل تضعيفه الصلاة في الحرم جميعه لأنه عم التضعيف في جميع الكلام)( ).
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: وروى أحمد في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل.. وفي هذا كالدلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكة يتعلق بجميع الحرم، لا يخص بها المسجد الذي هو مكان الطواف، وأن قوله صلى الله عليه وسلم: صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي، كقوله تعالى: ((فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ)) [التوبة:28]، وقوله تعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) [الإسراء:1]، وكان الإسراء من بيت أم هانئ.
وأن من نزل قريباً من مكة فإنه ينبغي له أن ينزل في الحل ويصلي في الحرم وكذلك كان ابن عمر يصنع( ).
وهل هذا التضعيف خاص بالمساجد الثلاثة على ما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أم يشمل الزيادات الحاصلة فيها فيما بعد أيضاً؟
فالمسجد الحرام لا خلاف في تضعيف الصلاة في زياداته على قول من عمم المراد في حديث التضعيف بالحرم كله، وهو الذي رجحناه، وإنما يأتي الخلاف على قول من يحصر المراد به ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.. وكذلك في مسجده صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى.
قال النووي: واعلم أن هذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده صلى الله عليه وسلم الذي كان في زمانه دون ما زيد فيه بعده، فينبغي أن يحرض المصلي على ذلك ويتفطن لما ذكرته، وقد نبهت على هذا في كتاب المناسك( ).
فقد خص النووي تضعيف الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بما كان في زمنه ولم يتعرض للمسجد الحرام والمسجد الأقصى.
وقال الملا على القارئ: (قال النووي: ينبغي أن يتحرى الصلاة فيما كان مسجداً في حياته عليه السلام لا فيما زيد بعده، فإن المضاعفة تختص بالأول، ووافقه السبكي وغيره، واعترضه ابن تيمية وأطال فيه المحب الطبري وأوردا آثاراً استدلالاً بها، وبأنه سلم في مسجد مكة أن المضاعفة لا تختص بما كان موجوداً في زمنه صلى الله عليه وسلم، وبأن الإشارة في الحديث إنما هي لإخراج غيره من المساجد المنسوبة إليه عليه السلام، وبأن الإمام مالكاً سئل عن ذلك فأجاب بعدم الخصوصية، وقال: لأنه عليه السلام أخبر بما يكون بعده وزويت له الأرض فعلم بما يحدث بعده، ولولا هذا ما استجاز الخلفاء الراشدون أن يستزيدوا فيه بحضرة الصحابة، ولم ينكر ذلك عليهم.
وبما في تاريخ المدينة عن عمر رضي الله عنه أنه لما فرغ من الزيارة قال: لو انتهى إلى الجبانة( ) وفي رواية إلى ذي الحليفة لكان الكل مسجد رسول صلى الله عليه وسلم.
وبما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو زيد في هذا المسجد ما زيد كان الكل مسجدي.
وفي رواية: لو بنى هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي، هذا خلاصة ما ذكره ابن حجر في الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم والله أعلم( ) وما ذكره القارئ هن حديث أبي هريرة لو ثبت لكان قاطعاً للنزاع لكنه ضعيف بجميع طرقه لا يصلح للاستدلال.
قال في تمييز الطيب من الخبيث:
في مسنده ضعف وله شواهد لا تقوم الحجة بمجموعها فضلاً عن أفرادها، ولذا خصص النووي اختصاص التضعيف بمسجده الشريف عملاً بالإشارة في الحديث المتفق عليه( ).
فالراجح إن شاء الله هو القول بثبوت التضعيف لما زيد أيضاً في هذه المساجد على ما كانت عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأن المسجد الحرام والمسجد النبوي، قد زيد فيهما في زمن الصحابة وكانوا يسمون الجميع المسجد الحرام والمسجد النبوي ولم ينقل عن أحد التفريق بين ما زيد من غيره وما ثبت عن أحد أنه فهم التضعيف خاصاً بما كانا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أسبق الناس إلى الخيرات والدواعي متوفرة للنقل فلو ثبت عن أحد منهم لنقل، والله أعلم.
وليس المراد بتضعيف الصلاة إجزاءها عن الفوائت التي فاتت فيما مضى بل المراد مضاعفة الثواب فقط.
قال النووي: قال العلماء: وهذا (أي مضاعفة الصلاة) فيما يرجع إلى الثواب فثواب صلاته فيه (أي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم) يزيد على ثواب ألف فيما سواه، ولا يعتدي ذلك إلى الإجزاء عن الفوائت حتى لو كانت عليه صلاتان فصلى في مسجد المدينة صلاة لا تجزئة عنهما، وهذا لا خلاف فيه، والله أعلم( ).
وقول النووي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحكم الثابت في حق المسجد الحرام والمسجد الأقصى، فلم ينقل عن أحد من السلف أن الصلاة فيهما تجزئ عن الفوائت.
وهل يختص هذا التضعيف صلاة الفريضة أم تعم النوافل أيضاً؟
قال النووي: واعلم أن مذهبنا أنه لا يختص هذا التفضيل بالصلاة في هذين المسجدين بالفريضة بل يعم الفرض والنفل جميعاً وبه وقال مطرف من أصحاب مالك( ).
وقال الطحاوي وغيره: إن ذلك يختص بالفرائض، لقوله صلى الله عليه وسلم أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة( ).
وقال ابن حجر: ويمكن أن يقال: لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه، فتكون صلاة النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرها، وكذا في المسجدين وإن كانت في البيوت أفضل مطلقاً( ).
وقول ابن حجر هو الذي يطمئن إليه القلب، فكفا أن المضاعفة ثابتة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى وبين المساجد الأخرى كذلك تكون المضاعفة حاصلة بين الصلاة في بيت في مكة والمدينة وبيت المقدس مع إمكان الصلاة في مساجدها.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فضل صلاة المرء في بيته غير المكتوبة على صلاته في مسجده الشريف، مع بيان فضيلة ومضاعفة أجر الصلاة في مسجده. فكذلك تكون صلاة الرجل نافلة في بيت في مكة وبيت المقدس أفضل وأكثر أجراً منها في المسجد الحرام والمسجد الأقصى، والله أعلم.