بوابة الحرمين الشريفين
معمارية الحرمين الشريفين
عمارة المسجد النبوي الفنية في المخطوطات الإسلامية و على البلاطات الخزفية

مقدمة
المسجد النبوي بالمدينة المنورة ثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، أسسه النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء إلى المدينة مهاجراً، فكان أول لبنات الدولة الإسلامية التي امتدت شرقاً وغرباً وعم نورها جميع الأرجاء.
وقد مر المسجد النبوي عبر تاريخه الطويل بالعديد من الزيادات والإضافات والإصلاحات، إذ إن مكانة هذا المسجد في قلوب الناس جعلت جميع الحكام والسلاطين يهرعون إلى إجراء مزيد من الإصلاحات والترميمات بهذا المسجد، والتي تعكس إلى حد كبير مكانة هذا المسجد في قلوب الناس جميعاً.
ولم يقتصر الأمر على التوسع والإصلاح والترميم وإنما فتح طريقاً من الإبداع الفني فكانت الرسوم الرائعة والمتعددة لكل جوانبه وزواياه في المخطوطات الإسلامية وعلى البلاطات الخزفية وغيرها مما تمكن منه الفنان المسلم والمحب مما اشتملت عليه هذه المختارات والتي نرجو أن تكون إثراء لعقل المسلم وفكره وتأصيلا لجانب الفن الإسلامي. 

 
اولاً: عمارة المسجد النبوي بالمدينة المنورة
يتوسط المسجد النبوي المدينة المنورة، والمدينة المنورة هي ثاني الحرمين، وهي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث روى أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لكل نبي حرم وحرمي المدينة}.
والمدينة المنورة والتي تعرف باسم طيبة، كانت تسمى قبل الهجرة يثرب، وترتفع عن سطح البحر بنحو 619 متراً، وهي واقعة على خط عرضي 44 شمال خط الاستواء، ودرجة حرارتها في الصيف تصعد إلى 48 درجة، وتنزل في الشتاء إلى عشر درجات نهاراً، وإلى خمسة تحت الصفر ليلاً، وكثيراً ما يرى فيها الماء متجمذا في آنيته عند الصباح في الشتاء.
وللمدينة أسماء عديدة، نذكر منها: أرض الله، وأرض الهجرة، والبارة، والبرة، والبحيرة، والبلاط، والجابرة، والجنة، والحرم، والخيرة، ودار الإيمان، ودار السنة، ودار السلامة، ودار الهجرة، ودار الفتح، وذات الحرار، والغراء، والمؤمنة، والمرحومة، والمقر، والمكينة، وغيرها من الأسماء التي أحصاها السمهودي في كتابه وفاء الوفا. ويتوسط المسجد النبوي المدينة بميل إلى الشرق، وفيما يلي دراسة تفصيلية لهذا المسجد منذ تأسيسه وحتى نهاية العصر العثماني.

1- تأسيس المسجد النبوي وعمارته في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم.
تأسيس المسجد النبوي:
عندما أذن الله سبحانه وتعالى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة لوضع حجر الأساس للدولة الإسلامية، وكانت أول خطوة اتخذها رسول الله هي بناء المسجد، لأن المسجد هو حجر الأساس في هذه الدولة، ففيه يتلقى الناس تعاليم الإسلام، وفيه تعقد الألوية للحروب والغزوات، وفيه تتم كل الأمور الخاصة بهذه الدولة الناشئة، وأول شيء تم لبناء هذا المسجد هو اختيار الموقع المناسب.
ويذكر السمهودي كيفية اختيار موقع المسجد، فيذكر أن رسول الله عندما قدم إلى المدينة أخذ أعيان بطونها بلجام ناقته حتى ينزل عليهم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: دعوها فإنها مأمورة، وأرخى الزمام لها فبركت في مكان كان مربداً لغلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت راحلته: هذا إن شاء الله المنزل، وقال: اللهم أنزلنا منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين، ثم دعا الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً، قالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجداً، ويذكر المؤرخون أن هذا المربد كان فيه نخل وقبور للمشركين وخرب، فأمر بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت ورمى بعظامها، وأمر بها فغيبت، وبالخرب فهدمت.
وبعد تنظيف هذا المربد وتسويته شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد، ويذكر السمهودي أن هذا المسجد الأول قد وردت عدة روايات في أبعاده، فالرواية الأولى تذكر أنه كان مربعاً طول ضلعه مائة ذراع، والرواية الثانية تذكر أنه كان مربعاً طول ضلعه أقل من مائة ذراع، والرواية الثالثة تذكر أن أبعاده كانت سبعون ذراعاً في ستين.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن فضرب، وبالأساس فحفر ثلاثة أذرع، ثم رفع البناء باللبن فوق الأرض سبعة أذرع، وجعلت قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخرته، وباب يقال له باب الرحمة، والباب الثالث هو باب آل عثمان.
وقد شارك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في بناء المسجد، وكان ينقل الحجارة بنفسه حتى يرغب المسلمين في العمل، فعمل معه المهاجرون والأنصار ودأبوا في العمل( ).
أما عن مادة وأسلوب البناء فيذكر السمهودي أن أساسه بني بالحجارة، ثم رفعت الجدران بعد ذلك باللبن، وأن الجدران قد بنيت أولاً بالسميط، ثم بنيت بعد ذلك بالسعيدة.
ولم يكن للمسجد في بداية الأمر سقف، فشكا المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بعمل ظلة من ثلاثة صفوف من الأساطين، ويذكر السمهودي أن كل
*** لا أصل له ***
صف كان به ست أساطين، ويذكر في موضع آخر أن أساطين المسجد كانت
من جذوع النخل وأن سقفه كان جريداً وخوصاً، ويذكر العمري أن المسجد قد
جعلت قبلته تجاه بيت المقدس من حجارة منضودة بعضها على بعض، وجعلت
حيطانه باللبن، وعمده من جذوع النخل.
وقد ظلت القبلة متجهة نحو بيت المقدس سبعة عشر شهراً، ثم حولت إلى الكعبة قبل غزوة بدر بشهرين، حينما نزلت الآية الكريمة بسم الله الرحمن الرحيم: ((قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ))[البقرة:144]. صدق الله العظيم.
وقد أقيمت ظلة ثانية في المسجد من جهة الكعبة، وبقيت الظلة الأولى مكاناً لأهل الصفة، وكان ما بين الظلتين رحبة واسعة، ولهذا سمي المسجد بمسجد القبلتين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألحق بالمسجد بيتين لزوجتيه عائشة وسودة رضي الله عنهما على نفس بناء المسجد، من لبن وجريد النخل، ولما تزوج رسولل الله صلى الله عليه وسلم نساءه بنى لهن حجراً، وهي تسعة بيوت، اختلف الرواة في تحديد مكانها، فهناك رواية تقول: إنها كلها كانت في شرق المسجد، وهناك رواية تقول: إنها كانت محيطة بالمسجد من جميع الجهات باستثناء الجهة الغربية، ويرجح السمهودي الرواية القائلة بوجود هذه البيوت شرق المسجد، ويستند إلى ما رواه ابن الجوزي عن محمد بن عمر قال: سألت مالك بن أبي الرجال أين كانت منازل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؟.. فأخبرنى نقلاً عن أبيه أنها كانت كلها في الشق الأيسر إذا قمت للصلاة، أي في شرق المسجد.
وبعد سبع سنوات ضاق المسجد على المصلين فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على زيادة مساحته، ويذكر السمهودي أنه كان هناك بقعة فضاء بجانب المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتريها ويوسعها في المسجد له مثلها في الجنة، فاشتراها عثمان فوسعها في المسجد.
وقد تمت توسعة المسجد من ثلاث جهات، فزيد في المسجد من جهة الشرق)3) عشرة أذرع أو أسطوانة، ومن جهة الغرب عشرين ذراعاً وأسطوانتين، ومن جهة الشمال ثلاثين ذراعاً، فأصبح ذرع المسجد قريباً من مربع طول جدار القبلة فيه تسعون ذراعاً، ومنه إلى جدار المؤخرة مائة ذراع، وكانت تمتد في ظلته حينذاك ثلاثة صفوف بكل صف تسعة سوار من جذوع النخل.
وقد قام عدد من علماء الآثار بعمل رسوم تخطيطية للمسجد النبوي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء العلماء كريسويل، وبوتي، ومحمود عكوش، وأحمد فكري، ولكن بدراسة هذه الرسوم تبين أنها جميعاً بها أخطاء.
2-المسجد النبوي في عهد الخلفاء الراشدين.
يذكر السمهودي أن سواري المسجد الخشبية (جذوع النخل) قد نخرت في عهد أبي بكر الصديق، فجددها ووضع مكانها جذوعاً أخرى وسقفها بالجريد.
ولما تولى عمر بن الخطاب الخلافة كان الناس قد كثروا في عهده، فقال له قائل: يا أمير المؤمنين لو وسعت في المسجد، فقال عمر: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إني أريد أن أزيد في قبلة مسجدنا مازدت فيه}.
ويذكر السمهودي أنه لما كثر المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه وضاق بهم المسجد اشترى عمر ما حول المسجد من الدور، إلا دار العباس بن عبد المطلب، وحجر أمهات المؤمنين، فقال عمر للعباس: يا أبا الفضل إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم، وقد ابتعت ما حوله من المنازل نوسع به على المسلمين في مسجدهم إلا دارك، وحجر أمهات المؤمنين.. فأما حجر أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها. وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسع بها في مسجدهم، فقال العباس: ما كنت لأفعل، فقال له عمر: اختر إحدى ثلاث.. إما أن تبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين، وإما أن أخطك حيث شئت من المدينة، وأبنيها من بيت مال المسلمين، وإما أن تتصدق بها على المسلمين فتوسع في مسجدهم، فقال: لا.. ولا واحدة منها، فقال عمر: اجعل بيني وبينك من شئت، فقال: أبي بن كعب، فانطلقا إلى أبى، فقصا عليه القصة، فقال أبي: إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا: حدثنا.. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله أوحى إلى داود أن ابن لي بيتاً أذكر فيه فخط له هذه الخطة (خطة بيت المقدس) فإذا تربيعها بزاوية بيت رجل من بني إسرائيل، فسأله داود أن يبيعه إياها فأبى، فحدث داود نفسه أن يأخذه منه، فأوحى الله إليه أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتا أذكر فيه، فأردت أن تدخل في بيتى الغصب وليس من شأنى الغصب، وإن عقوبتك أن لا تبنيه، قال: يارب فمن ولدي، قال: فمن ولدك، فأخذ عمر بمجامع أبي بن كعب، فقال: جئتك بشىء فجئتني بما هو أشد منه، لنخرجن بما قلت فجاء يقوده حتى دخل المسجد، فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو ذر، فقال أبي: نشدت الله رجلاً سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث بيت المقدس حين أراد الله داود أن يبنيه إلا ذكره، فقال أبو ذر: أنا سمعته من رسول صلى الله عليه وسلم، وقال آخر: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل أبيا، فأقبل أبي على عمر، فقال: يا عمر اتهمتنى على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: والله يا أبا المنذر ما اتهمتك عليه ولكن أردت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً، وقال عمر للعباس: اذهب فلا أعرض لك في دارك، فقال العباس: أما إذا قلت ذلك فقد تصدقت بها على المسلمين أوسع عليهم في مسجدهم، فأما وأنت تخاصمنى فخط عمر داراً أخرى للعباس، وبناها من بيت مال المسلمين.
وبعد هدم دار العباس وسع عمر رضي الله عنه المسجد، وبناه باللبن والجريد، أما عن مقدار هذه الزيادة، فقد ذكر السمهودي أن عمراً قد جعل امتداد المسجد من القبلة إلى الشاممائة وأربعون ذراعاً، ومن المشرق إلى المغرب مائة وعشرون ذراعاً. أما عن موضع هذه الزيادة فقد ذكر السمهودي أن موضع هذه الزيادة من جهة القبلة عشرة أذرع، ولما كان امتداد المسجد من الشمال إلى الجنوب قبل الزيادة مائة ذراع، وزيد من جهة القبلة عشرة أذرع تكون الزيادة من جهة الشمال ثلاثون ذراعاً. أما الامتداد من الشرق إلى الغرب، فقد ذكر السمهودي أن المسجد لم يزاد فيه من جهة المشرق، وعلى هذا الأساس تكون الزيادة من جهة الغرب فقط، ولما كان امتداد المسجد قبل الزيادة من الشرق إلى الغرب تسعون ذراعاً، وفي رواية أخرى مائة ذراع، وهو ما سبق ذكره، تكون الزيادة من جهة الغرب عشرون ذراعاً، طبقاً للرواية الأولى، وثلاثون ذراعاً طبقاً للرواية الثانية، وعلى هذا الأساس يكون طول المسجد مائة وأربعين ذراعاً، وعرضه مائة وعشرين ذراعاً، وله ظلة قبلة مكونة من أربع بلاطات، يفصلها عن بعضها أربعة صفوف من السواري، بكل صف اثنتي عشرة سارية (5). وقد قمت بعمل رسم تخيلي للمسجد النبوي بعد زيادة عمر بن الخطاب .
وفي سنة 29هـ (649م) شكا الناس إلى عثمان ضيق المسجد يوم الجمعة حتى إنهم ليصلون في الرحاب، فشاور عثمان أهل الرأى، فأجمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه، فصلى الظهر بالناس، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزيد فيه، وأشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة، وقد كان المسجد قبل الزيادة طول قبلته تسعون ذراعاً، وبكل صف في ظلته تسع سواري، أي أن المسافة بين كل سارية وسارية عشرة أذرع، ثم زيد في عهد عمر بن الخطاب فأصبح طول قبلته مائة وعشرون.ذراعاً، وبالتالي زيدت الأعمدة فأصبحت اثني عشر عموداً في كل صف.
3- المسجد النبوي في العصر الأموي
ظل المسجد النبوي بعد زيادة عثمان بن عفان سنة 29هـ بدون زيادة، حتى كان عهد الوليد بن عبد الملك، وكان عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة ومكة، فبعث الوليد إلى عمر بن عبد العزيز بمال، وقال له: من باعك فأعطه ثمنه، ومن أبى فاهدم عليه، وأعطه المال فإن أبى أن يأخده فاصرفه إلى الفقراء.
وقد استعمل عمر بن عبد العزيز صالح بن كيسان على هدم المسجد وبنائه، فهدمه في سنة إحدى وتسعين، وبناه بالحجارة المنقوشة وقصة بطن نخل، وعمله بالفسيفساء والمرمر، وعمل سقيفه بالساج وماء الذهب، وهدم حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأدخلها في المسجد، وذكر السمهودي نقلاً عن ابن زبالة أن الوليد بن عبد الملك كان قد كتب إلى ملك الروم: إنا نريد أن نعمر مسجد نبينا الأعظم، فأعنا فيه بعمال وفسيفساء، فقال: نبعث إليه بأحمال من الفسيفساء وبضعة وعشرين عاملاً.
أما عن أطوال المسجد بعد زيادة الوليد، فقد أصبح طول المسجد من الشمال إلى الجنوب مئتى ذراع، حيث زيد المسجد من جهة الشمال حوالي أربعين ذراعاً. أما عرضه من الشرق إلى الغرب، فقد وردت فيه عدة روايات ناقشها السمهودي، وانتهى إلى القول بأن عرض المسجد من جهة القبلة كان مائة وخمسة وستون ذراعاً، ومن جهة المؤخرة (الشمال) مائة وأربعون ذراعاً، وذلك الفارق نتيجة لميل الجدار الشرقي للمسجد جهة الغرب، حيث جعله عمر بن عبد العزيز منحرفاً جهة الغرب حتى لا يكون قبر الرسول أمام المصلين في الظلة الشرقية.
أما التخطيط الداخلي للمسجد، فنستنتج من روايات السمهودي أن ظلة القبلة أصبح بها خمسة أروقة، بكل صف من بوائكها سبعة عشر عموداً، وأن ظلة المؤخرة - والتي أسماها السمهودي السقايف الشامية - فقد أصبح بها أربعة أروقة، بكل صف من بوائكها سبعة عشر عموداً، كما أصبح للمسجد سقيفة في شرقيه بها ثلاثة أروقة، وسقيفة في غربيه بها أربعة أروقة، وبذلك أصبح المسجد يتكون من صحن وأربع ظلات وقد ذكر ابن هشام أن عمر بن عبد العزيز جعل لمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم حين بناه أربع منارات في كل زاوية منارة، وذكر ذلك السمهودي أيضاً، وأشار إلى أن عمر بن عبد العزيز قد بنى للمسجد أربع منارات في زوايا المسجد الأربعة، وأن إحدى هذه المنارات كانت تطل على دار سليمان بن عبد الملك، فلما حج سليمان بن عبد الملك أذن المؤذن فأطل على داره، فأمر سليمان بهدم هذه المنارة فهدمت، فأصبح للمسجد بذلك ثلاث منارات فقط، وقد قدم لنا السمهودي وصفها نقلاً عن ابن زبالة، فذكر أن المنارة الشرقية اليمانية طولها خمسة وخمسون ذراعاً، والشرقية الشامية طولها خمس وخمسون، والغربية الشامية ثلاث وخمسون، وعرضها جميعاً ثماني أذرع في ثماني أذرع.
وروى عن يحيى بن عباس عن أبيه أنه قال: مات عثمان وليس في المسجد شرفات ولا محراب، فأول من أحدث المحراب والشرافات عمر بن عبد العزيز، كما ذكر السمهودي نقلاً عن ابن زبالة أن عمر بن عبد العزيز كان أول من اتخذ حرساً للمسجد لا يحترف فيه أحد، وكان السبب في اتخاذ الحرس هو منع الناس من الصلاة على الجنائز في المسجد، لما يسببه ذلك من تأثير على نظافة المسجد.
أما عن تاريخ ابتداء وانتهاء العمارة فقد تعددت الروايات، ويذكر السمهودي نقلاً عن ابن زبالة أن بداية هذه العمارة كان سنة إحدى وتسعين، ويذكر في موضع آخر أن بداية البناء كانت سنة ثمان وثمانين، وفرغ منه سنة إحدى وتسعين، وفيها حج الوليد، كما ذكر رواية أخرى عن بن مروان ذكر فيها أن بناء المسجد كان سنة إحدى وتسعين، وانتهاءه كان سنة ثلاث وتسعين، وأنه استغرق في بنائه ثلاث سنين، وذكر ابن النجار أن بدء هدم المسجد النبوي كان سنة ثمان وثمانين واستمر حتى سنة إحدى وتسعين، وترجح الدكتورة سعاد ماهر الرواية القائلة ببدء البناء سنة ثمان وثمانين، وانتهائه سنة إحدى وتسعين، والتي كل من السمهودي وابن النجار.
وفي اعتقادي أنه لا تعارض بين الرواية القائلة ببدء البناء سنة ثمان وثمانين وانتهائه سنة إحدى وتسعين، والرواية القائلة ببدء البناء سنة إحدى وتسعين، وانتهائه في نفس السنة، حيث إني أعتقد أن المقصود ببدء البناء سنة 88هـ هنا هو استيراد المواد اللازمة كالساج والفسيفساء، والعمال الروميين، والذي استغرق بلا شك وقتاً طويلاً، ثم هدم المسجد والذي استغرق هو الآخر وقتاً، وفي اعتقادي أن بدء التحضير للبناء كان منذ سنة ثمان وثمانين، في حين بدء البناء بالفعل سنة إحدى وتسعين، وانتهى بنهاية هذا السنة، وبهذا نكون قد وفقنا بين الروايتين اللتان اتفقنا على أن انتهاء البناء كان سنة 91هـ، وهي التي حج فيها الوليد بن عبد الملك.
وقد قام سوفاجيه بعمل رسم للمسجد النبوي بعد زيادة عمر بن عبد العزيز في عهد الوليد من عبد الملك سنة 91 هـ (شكل12)، رسم فيه المسجد النبوي مكوناً من صحن وأربع ظلات، بظلة القبلة خمسة أروقة، وبظلة المؤخرة (الشمالية) خمسة أروقة، وبالظلة الغربية أربعة أروقة، وبالظلة الشرقية ثلاثة أروقة، ورسم في زوايا المسجد الأربعة أربع مآذن.. على أن سوفاجيه في هذا الرسم لم يوفق في بعض أشياء ذكرها الدكتور أحمد فكري، وهي استقامة الجدار الشرقي للمسجد، والصحيح أنه يميل تجاه الغرب، مما ترتب عليه أن تساوي الجدار الشمالي للمسجد مع الجدار الجنوبي، وهذا خطأ، فطول الجدار الجنوبي في الحقيقة 165 ذراعاً، في حين أن طول الجدر الشمالي 140 ذراعاً فقط، كما أن سوفاجيه قد جعل طول الجدار الغربي 190 ذراعاً، والصحيح 200 ذراع، وأنه وضع الحجرة الشريفة وقبر النبي صلى الله عليه وسلم في موضع يقع شمال موضعها، بمقدار عشرة أذرع، وأنه جعل ظلة المؤخرة من خمسة أروقة، والصحيح أربعة فقط، وأنه جعل أعمدة الصف الممتدة من القبلة إلى الشام تسعة عشر عموداً والصحيح اثنين وعشرين، وغيرها من الأخطاء التي أحصاها الدكتور أحمد فكري.
4- المسجد النبوي في العصر العباسي
ذكر ابن زبالة ويحيى أن المسجد لم يزل على حاله بعد زيادة الوليد إلى أن هم أبو جعفر المنصور بالزيادة فيه، إلا أنه توفي ولم يزد فيه حتى زاد فيه المهدي، الذي حج سنة ستين ومائة، وقدم إلى المدينة، فاستعمل عليها جعفر بن سليمان سنة إحدى وستين ومائة، وأمره بالزيادة فيه، وولى بناءه عبد الله بن عاصم بن عمر بن عبد العزيز، وعبد الملك بن شبيب الغسانى، فمات ابن عاصم فولى مكانه عبد الله بن موسى الحمص.
وكانت زيادة المهدي من ناحية الشام (الشمال) حوالي خمسة وستين ذراعاً، ولم يزد المهدي من جهة الجنوب (القبلة)، ولا الشرق، ولا الغرب. وقد استقرت حدود المسجد الشمالية عند هذا الحد منذ ذلك التاريخ.
ويذكر ابن النجار أن الخليفة المهدي خفض المقصورة، وكانت مرتفعة قدر ذراعين عن أرض المسجد، فوضعها على الأرض على حالها اليوم، أي القرن السابع الهجري. وقد قيل: إن المهدي قد زخرف المسجد بالفسيفساء شأنه في ذلك شأن الخليفة الوليد. وقد أصبحت أبواب المسجد بعد زيادة المهدي أربعة وعشرون باباً، منها: أربعة في القبلة خاصة غير عامة، وعشرون عامة، وثمانية في المشرق، وثمانية في المغرب، وأربعة في الجهة الشمالية.
وقد أثبت المهدي عمارته في نص كتابي بصحن المسجد نصه: (بسم الله الرحمن الرحيم، أمر عبد الله المهدي أمير المؤمنين أكرمه الله وأعز نصره بالزيادة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وإحكام عمله ابتغاء وجه الله عز وجل والدار الآخرة، أحسن الله ثوابه بأحسن الثواب، والتوسعة لمن صلى فيه من أهله وأبنائه من جميع المسلمين، فأعظم الله أجر أمير المؤمنين فيما نوى من حسنة في ذلك، وحسن ثوابه، وكان مبتدأ ما أمر به عبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين أكرمه الله من الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سنة اثنتين وستين ومائة، وفرغ منه في سنة خمس وستين ومائة، فأمير المؤمنين أصلحه الله يحمد الله على ما أذن له واختصه به من عمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمداً كبيراً، والحمد لله على كل حال ).
وقد ورد في بداية البناء روايتان، إحداهما تشير إلى أنه كان في سنة إحدى وستين ومائة، والثانية تذكر أنه كان سنة اثنتين وستين ومائة، ولكن كل الروايات تتفق على أن نهاية البناء كان سنة 165هـ، وفي اعتقادي أنه لا تعارض بين الروايتين، إذ إنه من المرجح أن تكون سنة إحدى وستين ومائة هي تاريخ إصدار الأوامر، وبداية التحضير لعمارة المسجد، واستيراد المواد الخام اللازمة، وتكون سنة اثنتين وستين ومائة هي بداية العمل الفعلي في هذه الزيادة.
ويذكر ابن قتيبة أن الخليفة المأمون قد عمر المسجد النبوي، وزاد فيه زيادة كبيرة، وأنه قرأ على موضع من المسجد: (أمر عبد الله المأمون بعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة اثنتين ومائتين) ، وتعلق الدكتورة سعاد ماهر على رواية ابن قتيبة قائلة: إن المأمون لم يزد في المسجد، ولم يوسعه، وإنما يحتمل أنه قام بترميم وتجديد أجزاء من المسجد، ذلك أن التعمير والترميم أو إضافة جدار داخلي أو إصلاح مقصورة أو محراب لا يعني زيادة المسجد، ولكنه عمل معماري قد يفوق في تكاليفه زيادة مساحة المسجد، ولم يزد المأمون في مساحة المسجد، إذ ظلت مساحة المسجد النبوي بعد زيادة الخليفة المهدي كما هي حتى عهد آل سعود.
وقد قام ابن جبير بزيارة المسجد النبوي وتوصيفه في أواخر القرن السادس الهجري، وهو في الحقيقة وصف لحالة المسجد بعد بناء المهدي له، إذ إن الفترة ما بين عمارة الخليفة المهدي سنة 165هـ وزيادة ابن جبير لم تشهد أية زيادة في مساحة المسجد، ولا أية تغييرات جوهرية في تفاصيله، ويصف لنا ابن جبير المسجد، فيذكر أنه كان مستطيل تحف به من جهاته الأربعة بلاطات مستديرة به، ووسطه كله صحن مفروش بالرمل والحصى، والجهة القبلية بها خمس بلاطات مستطيلة من غرب إلى شرق، والجهة الجنوبية بها خمس بلاطات أيضاً على الصفة المذكورة، والجهة الشرقية بها ثلاث بلاطات، والجهة الغربية بها أربع بلاطات.
وبالمسجد مائتان وتسعون سارية، وهي أعمدة متصلة بالسمك دون قصى تنعطف عليها، فكأنها دعائم قوائم، وهي من حجر منحوت قطعاً قطعاً، ململمة، مثقبة، توضع أنثى في ذكر، ويفرغ بينها الرصاص المذاب إلى أن تتصل عموداً قائماً، وتكسى بغلالة جيار، ويبلغ في صقلها ودلكها، فتظهر وكأنها رخام أبيض.
ثم يصف لنا ابن جبير بعد ذلك قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيذكر أنه مع آخر الجهة القبلية مما يلي الشرق، وله خمسة أركان بخمس صفحات، وشكله شكل عجيب، وصفحاته محرفة عن القبلة تحريفاً بديعاً لا يتأتى لأحد معه استقباله في صلاته لأنه ينحرف عنه، وعن يمين الروضة المنبر الكريم، وارتفاعه نحو القامة، وسعته خمسة أشبار، وطوله خمس خطوات، وله باب على هيئة الشباك. وللمسجد المبارك ثلاث صوامع، إحداهما في الركن الشرقي المتصل بالقبلة، والاثنتان في ركني الواجهة الجنوبية صغيرتان، كأنهما على هيئة برجين، والصومعة الأولى على هيئة الصوامع.
وفي سنة 654هـ شب حريق كبير بالمسجد النبوي، وقد ابتدأ هذا الحريق من زاوية الحرم النبوي الغربية من الشمال، فما كان إلا ساعة حتى احترقت أسقف المسجد أجمع، ووقع بعض أساطينه، وكان ذلك قبل أن ينام الناس، واحترق أيضاً سقف الحجرة النبوية الشريفة.
ويذكر ابن العماد الحنبلي أن سبب هذا الحريق هو سقوط ذبالة من يد فراش المسجد أبي بكر المراغي، مما أدى إلى انتشار النار التي قضت على جميع أسقفه، وأوقعت بعض السواري، وذاب الرصاص، واحترق سقف الحجرة الشريفة، ووقع بعضه في الحجرة الشريفة، وكان ذلك ليلة الجمعة أول ليلة من رمضان بعد صلاة العشاء.
وقد حاول أهل المدينة إطفاء هذا الحريق فغلبهم، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وقد كتب إلى الخليفة المستعصم بالله عبد الله بن المستنصر بالله بذلك الحريق، فأرسل الصناع والآلات في موسم الحج، وبدأ تجديد المسجد سنة 655هـ، وأرسل أخشاباً ومواد للعمارة الملك المظفر صاحب اليمن، وكذلك فعل نور الدين علي بن المعز، والظاهر بيبرس البندقداري، وتم تجديد المسجد.
5- المسجد النبوي في العصرين المملوكي والعثماني.
المسجد النبوي في العصر المملوكي:
بعد زوال الدولة العباسية بسقوط بغداد سنة 656هـ على أيدي المغول آلت رعاية الحرمين الشريفين إلى الدولة المملوكية، التي عدت حامية الإسلام آنذاك، واستطاعت رد المغول وهزيمتهم، وقد أظهر سلاطين المماليك عناية فائقة بالحرمين الشريفين، فوالوهما بالعمارات والإصلاحات، ومن هؤلاء السلاطين الذين أولوا عناية كبيرة بالمسجد النبوي السلطان سيف الدين قطز، الذي هزم المغول في موقعة عين جالوت، ووجه جهوداً كبيرة لإصلاح المسجد النبوي إلا أنه قتل قبل أن تتم عمارته، فأكملها الظاهر بيبرس الذي خلفه على العرش، والذي قام بتجهيز الأخشاب والحديد والرصاص، وثلاثة وخمسون صانعاً، وأرسل معهم الأمير جمال الدين محمد الصالحي، ثم صار يمدهم بما يحتاجون إليه من الآلات والنفقات، حتى تم إصلاح باقي المسجد.
وفي سنة ثمان وسبعين وست مئة في أيام الملك المنصور قلاوون الصالحي عملت فوق الحجرة الشريفة قبة، وهي مربعة من أسفلها، مثمنة في أعلاها بأخشاب أقيمت على رؤوس السواري، وسمر عليها ألواح من خشب، ومن فوقها ألواح من الرصاص.
وفي سنة 705هـ (1305م)، وسنة 706هـ (1306م)، جدد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون سقف المسجد شرق رحبته وغربها.
وفي سنة تسع وعشرين وسبعمائة، أمر السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بزيادة رواقين في المسقف القبلي، فاتسع مسقفه مما دعم نفعهما، ثم حصل فيهما خلل، فجددهما الملك الأشرف برسباي في ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة هجرية (1427م)، على يد الأمير مقبل القديدي، ثم حصل خلل في سقف الروضة الشريفة وغيرها من سقف المسجد في دولة الظاهر جقمق، فجدد ذلك في سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة هجرية (1449م)، على يد الأمير بردبك الناصر المعمار.
وفي عهد الأشرف قايتباي سنة تسع وتسعين وثمانمائة أخرى بالمسجد النبوي عمارة كبيرة، على يد الجناب الخواجكى الشمسي شمس الدين بن الزمن، فهدمت عقود المسجد التي تلي رحبته من جهة المشرق، وسقف الرواق الذي كان عليها، ونقضت بعض أساطينه، ثم أعيد بناؤه من جديد، وأصلحت مآذنه.
وفي عام 886هـ (1481م) حدث حريق كبير بالمسجد النبوي، ويحدثنا السمهودي عن هذا الحريق، فيذكر أنه في الثلث الأخير من ليلة الثالث عشر من رمضان سنة ست وثمانين وثمان مئة هجرية، حصل رعد قاصف أيقظ النائمين، وسقطت صاعقة أصاب بعضها هلال المنارة الشرقية اليمانية، ولها لهب كالنار، وانشق رأس المنارة، وتوفي رئيس المؤذنين الذي كان آنذاك فوق المنارة، وأصابت الصاعقة سقف المسجد، واستولى الحريق على جميع السقف والحوامل والأبواب وخزانات الكتب، وذاب الرصاص من قبة الحجرة الشريفة، واحترقت أخشابها وكان حريقاً هائلاً.
ولما بلغ الأمر الأشرف قايتباي وجه الأمير سنقر الجمال إلى المدينة لعمارة المسجد، كما توجه إلى المدينة شمس الدين بن الزمن فتولى العمارة الأولى في عهد قايتباي، ومعه أكثر من مئتي جمل ومائة حمار وثلاثمائة من الصناع، وغيرهم من الحمالين والمبيضين والجباسين والسباكين.
وبدأ العمل في المسجد بالمئذنة الرئيسية، فبنوها ثم بنوا الجدار القبلي والشرقي إلى باب جبريل، وزادوا في عرضه يسيراً، وأقاموا قبة كبيرة فوق القبة القديمة، وأقاموا قبتين أمام باب السلام من الداخل، وبنوا هذا الباب بالرخام الأسود والأبيض، وزخرفوه، وأعادوا ترخيم الحجرة الشريفة وما حولها، وصنعوا منبراً، واتخذوا دكة للمؤذنين من الرخام، وخفضوا أرض مقدم المسجد حتى ساوت أرض المصلى النبوي، واتخذوا محراباً مجوفاً في دعامة أقاموها بين المنبر والقبر على حد مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم الأصلي، ثم بنوا الجدار الغربي من باب الرحمة إلى باب السلام، وبنوا مئذنة باب الرحمة، وبنوا مدرسة بجوار المسجد بين باب السلام وباب الرحمة ولا تزال باقية حتى الآن تعرف بالمحمودية، وقد أنفق قايتباي في هذه العمارة ما قيمته (120000) دينار.
المسجد النبوي في العصر العثماني:
لما انتقلت الخلافة إلى آل عثمان، وأصبح لهم السيطرة على الحرمين، خلفوا ملوك مصر في القيام بما يحتاج إليه المسجد النبوي، ففي سنة ثمانين وتسعمائة من الهجرة عمره السلطان سليم الثاني، وشيد به محراباً جديداً هو القبلة القائمة اليوم غرب المنبر النبوي، وقد وشى هذا المحراب بالفسيفساء المنقوشة بالذهب، وكتب اسم السلطان سليم على ظاهره بخط الثلث الجميل، وفي سنة 1233هـ بنى السلطان محمود القبة الشريفة، ثم أمر بترميمها ودهانها باللون الأخضر في سنة 1255هـ، ومن ثم سميت القبة الخضراء.
وفي سنة 1265هـ كانت العمارة الكبيرة التي قام بها السلطان عبد المجيد، والتي بدأت سنة 1265هـ وانتهت سنة 1277هـ، وسببها أن شيخ المسجد النبوي داود باشا كتب إلى السلطان عبد المجيد بأن المسجد النبوي مر عليه ما يقارب أربعة قرون دون أن تقوم به عمارة هامة، حتى آل كثير منه إلى التخريب، فأرسل السلطان من قبله من استبان الحقيقة، وتعرف على حال المسجد، ونبأه به، فأمر بعمارته، ووكل أمر ذلك إلى رجال انتخبهم، فأحضروا الأحجار من هضاب بوادي العقيق، وكانوا كلما نقضوا جزءا قديماً أقاموا مكانه جديداً، حتى أتموا العمارة في اثنتي عشرة سنة.
وقد تناولت هذه العمارة المسجد كله، فيما خلا المقصورة وبعض جدر لم ينقضوها لإحكام أساسها، وإتقان بنائها، منها الجدار الشمالي والغربي، ولم ينقضوا المحراب العثماني لإتقانه وحسن صنعه، وغيروا الأعمدة القديمة بأخرى أكثرها قطعة واحدة، يرتكز كل منها على مربع حجري، وفي علوه مثله، وأقاموا عليها عقوداً من الحجر الأحمر المنحوت، وعلى تلك العقود قبائاً في كثير منها طاقات وشبابيك، بها الشبكات النحاسية التي تشبه الزرد، والزجاج الملون ينفذ منه الضوء إلى جوف المسجد، واستحدثوا أعمدة في جدران المسجد لتقوم عليها القباب، ووسعوا الأروقة الشمالية والشرقية والغربية، فجعلوا في الجهة الشمالية رواقين بدلاً من ثلاث، وكذلك في الجهة الشرقية، وجعلوا في الجهة الغربية ثلاث بدل أربعة، ولم يوسعوا الأروقة القبلية التي تحاذي الصحن، وإنما أضافوا إليها رواقين مما يلى صحن المسجد، وخرجوا بالجدار الشرقي من المئذنة الرئيسية إلى باب جبريل خمسة أذرع، فوسع ما بين المقصورة والجدار، فعملت فيه حجرة استخدمت كمخزن، وأعادوا بناء باب جبريل وباب السلام، بشكل فخم وبنوا أمام باب السلام قبة كبيرة.
وكان بالجهة الشمالية من المسجد مخزن ومخبز ودور، فاشتريت، وهدم الكل وبني مكانه ساحتان بكل منهما أربع حجرات، الشرقية منها عملت مكتباً والغربية مخزناً، وبنوا المئذنة المجيدية على أبدع شكل بعد أن حفروا لها أثاثاً عميقاً، وهدموا القبة التي كانت بصحن المسجد مخزناً للزيت لأنها تلوثه، واستعاضوا عنها بالمخزن الشمالي الغربي، كما بنوا محراب على يمين الداخل من باب النساء، وجعلوا جزءاً من الرواق الشرقي مصلى للنساء، وبعد أن أتموا البناء رخموا أرض المسجد كلها، والنصف الأسفل من الجدار القبلي، ونقشوا في القباب رسوماً تمثل أشجاراً مختلفة، وأزهار، وجداول جارية، وصقلوا الأساطين، وذهبوا رؤوسها، وأعادو تذهيب المحراب والمنبر، وقد بلغت تكاليف هذه العمارة ثلاثة أرباع المليون من الجنيهات المجيدية.
وصف المسجد النبوي بعد استقرار عمارته في العصر العثماني:
استقرت عمارة المسجد النبوي بعد عمارة السلطان عبد المجيد، التي انتهت سنة 1277هـ، وفيما يلي وصف للمسجد النبوي بعد استقرار عمارته في العصر العثماني:
الشكل العام والتخطيط الداخلي:
المسجد النبوي شكله العام مستطيل طوله من الشمال إلى الجنوب 116.25 متر، وعرضه من جهة القبلة (الجنوبية) 86.25 متر، ومن الجهة الشمالية (الشامية) 66 متراً. ويتكون المسجد من صحن أوسط غير مسقوف يسمونه الحصوة، والجهة الجنوبية منه اثنا عشر رواقاً، وبالجهة الغربية ثلاثة أروقة، وبالجهة الشرقية رواقان، وبالجهة الشمالية ثلاثة أروقة.. وعدد أعمدة الحرم - بما فيه الملتصقة بالجدران - ثلاثمائة وثلاثة وعشرين عموداً. ويوجد بين كل عمودين ثلاثة مصابيح معلقة في عوارض بين الأعمدة بسلاسل فضية، وسقف الأروقة من القباب المقامة على عقود.
الأبواب :
للمسجد خمسة أبواب، اثنان في الجهة الغربية، هما: باب السلام، وباب الرحمة.. واثنان في الجهة الشرقية، هما: باب النساء، وباب جبريل.. وباب واحد في جهة الشمال أنشأه السلطان عبد المجيد.
أبواب الجهة الغربية:
(1) باب السلام: وهو يقع في أول الجدار الغربي من جهة الجنوب، وكان يعرف باسم باب مروان لملاصقته لداره التي كانت في قبلة المسجد مما يلي هذا الباب، وهو من فتحة واحدة، ومكتوب على عتبته: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ))[الحجر:45] *((ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ))[الحجر:46].
(2) باب الرحمة: ويقع في ثلث الجدار الغربي من جهة القبلة، وكان يعرف باسم باب عاتكة، نسبة إلى عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية، لمقابلة دارها له، كما عرف باسم باب السوق لأن السوق كان في هذه الجهة، ومكتوب على هذا الباب: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ))[الزمر:53].
أبواب الجهة الشرقية:
(1) باب النساء: وهو في مقابلة باب الرحمة، ومكتوب عليه: (الله ولي التوفيق) قال الله تعالى: ((وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ))[الأحزاب:33]، ومكتوب عليه أيضا: ((لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا))[النساء:32].
(2) باب جبريل: إلى الجنوب من باب النساء، ويعرف باسم باب عثمان، لمقابلته لداره، وسمي بباب جبريل لأن جبريل، عليه السلام، أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند هذا الباب، وأمره أن يغزو بني قريظة بعد انصرافه من غزوة الخندق، ومكتوب على هذا الباب: ((فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ))[التحريم:4]. (صدق الله العظيم).
أبواب الجهة الشمالية:
وهو باب واحد يعرف باسم الباب المجيدي، أو باب التوسل، وهو من إنشاء السلطان عبد المجيد سنة 1267هـ.
مآذن المسجد:
للمسجد خمس مآذن في كل ركن من أركانه مئذنة، وهي:
(1) مئذنة في الركن الجنوبي الغربي، تسمى مئذنة باب السلام.
(2) مئذنة في الركن الجنوبي الشرقي، تسمى المئذنة الرئيسية التي يؤذن عليها رئيس المؤذنين.
(3) مئذنة في الركن الشمالي الشرقي، تسمى المئذنة السليمانية.
(4) مئذنة في الركن الشمالي الغربي، تسمى المئذنة المجيدية.
أما المئذنة الخامسة، فتقع بجوار باب الرحمة بالضلع الغربي، وتسمى مئذنة باب الرحمة.
وجميع مآذن المسجد على الطراز العثماني حيث تم تجديدها في هذا العصر، ولها قمم على هيئة المخروط، باستثناء المئذنة الموجودة بالزاوية الجنوبية الشرقية من المسجد (بجوار القبة الخضراء)، فهي على الطراز المملوكى.
المحاريب:
للمسجد النبوي ستة محاريب، هي:
(1) المحراب النبوي بالروضة على يسار المنبر.
(2) المحرام السليماني إلى الغرب من المحراب النبوي.
(3) محراب عثمان: في الجدار الجنوبي للمسجد، خلف المحراب النبوي.
(4) محراب التهجد: إلى الشمال من حجرة فاطمة، خارج المقصورة الدائرة عليها.
(5) محراب فاطمة: جنوب محراب التهجد داخل المقصورة، وهو مبني على الأسطوانة الملاصقة للصندوق المقام على قبر فاطمة رضي الله عنها.
(6) محراب علىّ يمين الداخل من باب النساء، ويرجع لعمارة السلطان عبد المجيد سنة 1275هـ.
المنبر ودكة المؤذنين:
والمنبر الموجود بالمسجد النبوي في العصر العثماني هو منبر السلطان مراد، الذي أرسله إلى المسجد سنة 998هـ، ولا يزال موجوداً إلى الآن، ولهذا المنبر اثنتا عشرة درجة، وهو مصنوع من الرخام، وظاهره مغمور بالتذهيب والنقوش البديعة، وفوقه قبة لطيفة قائمة على أربعة أعمدة من المرمر، وفوق بابه شرافات آية في الإبداع وعلى بعد خمسة أمتار إلى الشمال من المنبر توجد مقصورة المبلغين، ومنها يقيم المبلغون الصلاة، وهي عبارة عن مربع رخامي قائم على ثمانية أعمدة رشيقة، ستة محلاة بصبغ أحمر عقيقي واثنان أبيضان.
حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم والمقصورة:
بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في 12 ربيع الأول. سنة 11هـ، دفن بحجرة عائشة رضي الله عنها، رأسه إلى الغرب ووجهه الشريف نحو القبلة، ولما توفي أبو بكر في 22 جمادى الأول سنة 13هـ دفن إلى جانبه من جهة الشمال رأسه خلف منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما طعن عمر بن الخطاب في 27 ذي الحجة سنة 32هـ
دفن إلى جوارهما إلى الشمال من أبي بكر رأسه عند منكبه، وقد أجمع المؤرخون على هذا الترتيب لمواقع قبور أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بالنسبة لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان السمهودي قد ذكر إلى جانب هذه الرواية روايات أخرى لترتيب مواقع هذه القبور، على أن السمهودي قد أقر بأن الوضع هو الوضع الذي اتفق عليه أغلب المؤرخين وأيدته معظم الروايات.
ومن الجدير بالذكر أن الحجرة الشريفة محاطة تحت الأرض بدائرة من الحديد والرصاص قام بعملها نور الدين محمود بن زنكي سنة 557هـ، على إثر محاولة الصليبين سرقة جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم، عن طريق عمل نفق من إحدى الدور المجاورة للمسجد إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث تم اكتشاف أمرهم، وضربت أعناقهم وحرقهم، ثم أمر نور الدين محمود فحفر حول الحجرة الشريفة حتى بلغ الماء، ثم بنى فيها أساساً من الحجارة، وصب عليها الحديد والرصاص المصهور.
وفي عهد عمر بن عبد العزيز كانت الحجرة قد أُدخلت في المسجد، وبُني حول الحجرة جدار ذو خمسة أضلاع، وكانت مقاسات هذه الحجرة كما ذكره