بوابة الحرمين الشريفين
موسوعة الحرمين
المسجـد الحـرام وأحكـامـه

المسجـد الحـرام وأحكـامـه

مكة والحرم
مكة هي بلد الله الحرام التي في وسط الدنيا وسرتها وهي أعلى مكان في وجه الأرض.
ولها أسماء كثيرة، ولكل اسم تعليل يناسب المعنى، ومن أشهر أسماءها مكة.
وقال أصحاب اللغة: سميت مكة مكة (بالميم) لأنها تمك الجبارين، أي: تذهب نخوتهم، وقيل: لأنها تمك الفاجر عنها، أي: تخرجه، أو لأنها تجهد أهلها، من قولهم: تمككت العظم إذا أخرجت مخه، أو لأنها تجذب الناس إليها من قولهم: أمتك الفصيل ما في ضرع أمه إذا لم يبق فيه شيئاً، وقيل: لقلة مائها، من قولهم: مك الثدي، أي: مصه، لأنهم كانوا يمككون الماء ويستخرجونه بتكلف، وقيل: لأنها تمك الذنوب، أي: تذهب بها كما يمك الفصيل ضرع أمه فلا يبقى فيه شيئاً.
وهذه المعاني كلها صادقة على مكة( ) وقد ذكرها الله تعالى باسم مكة في قوله: ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)) [الفتح:24].
أشار الله جل شأنه في هذه الآية الكريمة إلى امتنانه على المؤمنين في صلح الحديبية أنه كف أيدي المشركين الذين كانوا خرجوا على عساكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بهم أسرى وخلى عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقتلهم.
وروى أحمد في مسنده وابن جرير في تفسيره بإسناد صحيح عن عبد الله بن مغفل قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن( ) وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فأخذ سهيل بن عمرو بيده فقال: ما نعرف (بسم الله الرحمن الرحيم) أكتب في قضيتنا ما نعرف، قال: أكتب: باسمك اللهم، فكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة، فأمسك سهيل بن عمرر بيده وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله، أكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: أكتب: هذا ما صالح عليه ابن عبد الله بن عبد المطلب وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله عز وجل بأبصارهم، فقدمنا إليهم فأخذناهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أماناً؟ فقالوا: لا، فخلى سبيهم فأنزل الله عز وجل: ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)) [الفتح:24]( ).
(2) ومن أسماء مكة (بكة) أيضاً:
ذكرها جل ذكره في قوله: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)) [آل عمران:96].
وسيأتي تفسير الآية إن شاء الله وسميت بكة لأنها تبك أي تدق أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها.
وقيل لازدحام الناس فيها، وقال ابن قتيبة: بكة هي مكة لأن التاء تبدل بالميم كضرب لازم ولازب( )، وورد ذكر مكة باسم بكة في التوراة أيضاً وقد بقيت كلمة وادي بكة في التوراة على ما دخل فيها من التحريف والتغيير إلا أن المترجمين حولوها إلى (وادي البكاء) وجعلوها إسم نكرة بدل علم وقد جاء في المزمور الرابع والثمانين طوبى لأناس عزهم بك طرق بيتك في قلوبهم عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعاً.
وأيضاً ببركات يغطون مورة يذهبون من قوة إلى قوة يرون قدام الله في صهيون( ).
قال الشيخ أبو الحسن الندوي نقلاً عن التفسير الماجدي وكتاب (رحمة للعالمين): وقد انتبه علماء اليهود بعد قرون إلى أن هذه الترجمة كانت خاطئة فقد جاء في دائرة المعارف اليهودية اعتراف بأنه واد مخصوص لا ماء فيه، وأن في ذهن من صدرت عنه هذه العبارة صورة لواد له أوضاع طبيعية عبر عنها بهذه الكلمة، وقد كان ناقلوا هذه الصحف إلى الإنجليزية أكثر أمانة ودقة في الترجمة من الذين قاموا بالترجمة العربية فقد تركوا كلمة (بكة) كما كانت في الأصل وكتبوها بالحرف الاستهلالي كما تكتب الأعلام( ).
(3) ومن أسماء مكة (أم القرى) كما قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)) [الشورى:7].
والمراد بأم القرى، مكة باتفاق المفسرين، وإنما سميت مكة أم القرى لأنها أشرف من سائر البلاد وأحبها إلى الله كما يأتي بيانه إن شاء الله.
وقيل لأنها فيها بيت الله ولما جرت العادة بأن الملك وبلده مقدمان على جمع الأماكن لذا سميت أماً لأن الأم متقدمة في الفضل والسن( ).
وروي عن ابن عباس في وجه تسمية مكة أم القرى أنه قال: لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بعث الله تعالى ريحاً هفافة فصفقت( ) الماء فأبرزت عن خشفة( ) في موضع هذا البيت كأنها قبة فدحا الله الأرضين من تحتها فمادت ثم مادت فأوتدها بالحبال فكان أول جبل وضع فيها أبو قبيس فلذلك سميت أم القرى( ).
ولكنه لم يصح عن ابن عباس لأن في إسناده متروكين متهمين بالكذب وروى نحوه ابن جرير أيضاً( )، وفي إسناده محمد بن حميد الرازي وهو أيضاً ضعيف جداً.
وروى الطبراني في الكبير وابن جرير بإسناد صحيح وابن المنذر والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: وضع البيت قبل الأرض بألفي سنة فكان البيت زبدة بيضاء حتى كان العرش على الماء وكان الأرض تحته كأنها حشفة فدحيت منه( ).
ولا يكون لقول عمرو بن العاص هذا حكم المرفوع وإن كان من الأمور التي لا مجال فيه للاجتهاد، فإن من شرط قول الصحابي الذي له حكم المرفوع أن لا يكون معروفاً بالرواية عن أهل الكتاب.
فموقع مكة المكرمة وما يحيط بها من الجزيرة العربية يجعلها جديرة بأن تكون مركزاً لدعوة تعم العالم وتخاطب الأمم بأجمعها وهي دعوة خاتم النبيين الذي بعث إلى الناس كافة وكان النبي من الأنبياء عليهم السلام من قبل يبعث إلى قومه خاصة، وبعث نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة.( ) فهي مع كونها جزء من قارة آسيا تقع بمقربه من قارة أفريقيا، ثم قارة أوروبا، وكل منهما مركز الحضارات والثقافات والديانات والحكومات القوية الواسعة وتمر بها القوافل التجارية التي تصل بين بلاد مختلفة.
(وكانت تقع الجزيرة العربية بين قوتين متنافستين قوة المسيحية وقوة المجوسية وقوة الغرب وقوة الشرق، قد ظلت رغم ذلك كله محتفظة بحريتها وشخصيتها ولم تخضع لإحدى الدولتين إلا في بعض أطرافها وفي قليل من قبائلها ولم تخضع أيضاً للاستعمار الغربي الأخير وكانت في خير موقف لتكون مركزاً لدعوة إنسانية عالمية تقوم على الصعيد العالمي وتتحدث من مستوى عالي بعيدة عن كل نفوذ سياسي وتأثير أجنبي.
لذلك اختار الله الجزيرة العربية ومكة المكرمة لتكون مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم ومهبط الوحي ونقطة انطلاق للإسلام في العالم كله( ).
(4) ومن أسما مكة (البلدة) كما في قوله تعالى: ((إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [النمل:91]( ).
والمراد بها مكة لا غير فهي التي حرمها أن يسفك فيها دم. ويصاد فيها صيد وحتى لا يختلى خلاها، وهو قول قتادة وغيره( ).
ومن أسماء مكة (معاد) (بفتح الميم).. كما في قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)) [القصص:85].
روى البخاري في صحيحه أن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ((لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)) [القصص:85].
قال: إلى مكة( ).
وروى الطبري من وجه آخر عن ابن عباس قال: لرادك إلى معاد، قال: إلى الجنة، وإسناده ضعيف( ) وفيه بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بفتح مكة وقد روي من قول الضحاك أنه قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأنزل الله عليه هذه الآية( ).
(6) ومن أسماء مكة (البلد) كما في قوله تعالى: ((لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)) [البلد:1]. يعنى مكة، وقد أقسم الله به ليعظمه لدى الناس وبه فسره ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم( ). (7) ومن أسماء مكة (البلد الأمين) كما في قوله تعالى: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ)) [التين:1] * ((وَطُورِ سِينِينَ)) [التين:2] * ((وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ)) [التين:3].
(10) وقال ابن عباس وغيره:
إن المراد بالبلد الأمين مكة( ). ووصف البلد بالأمين لأن من دخله كان آمناً.
وفي هذه الآيات الكريمة أقسم الله تبارك بهذه الأشياء لعظم شأنها، واختلف في معنى التين والزيتون فقال بعضهم: المراد بالتين، الذي يؤكل. وبالزيتون كذلك، والطور هو طور سيناء. قال ابن كثير: قال بعض الأئمة: هذه محال ثلاث بعث الله في كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم، أصحاب الشرائع الكبار. فالأول محلة التين والزيتون، وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى بن مريم عليهما السلام، والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران، والثالث مكة وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسل فيه محمداً صلى الله عليه وسلم.
فذكرهم مخبراً عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان ولهذا أقسم بالأشرف ثم الأشرف منه ثم بالأشرف منهما( ).
ذكر بعضهم أسماء أخرى لمكة. منها: الناسة، والنساسة، والحاطمة، وصلاح، والعرشي، والعريش، والقادس، والمقدسة، وكوثي، والحرم، ورتاج، وأم رحم بالراء، وأم زحم (بالزاي)، وأم صبح، ولباق، وبرة، والبيت العتيق، والراس، والقادسية، والمسجد الحرام، والمعطشة، والمكتان، والنابية، وأم روح، وأم كوث، والوادي.
ذكر هذه كلها الفاسي في شفاء الغرام في الباب الثاني في أسماء مكة المشرفة وذكر لأكثرها وجه تسميتها( ) وكذلك الحموي في معجمة أكثرها( ).
نشأة مكة:
سبق لنا قول عبد الله بن عمرو بن العاص الموقوف عليه: أن البيت وضع قبل الأرض بألفي سنة، فإن صحت هذه الرواية وكذلك رواية بناء أدم للكعبة كما يأتي، ومع ذلك لا نقدر على الجزم بأن مكة كانت معمورة مسكونة من قبل هجرة إبراهيم بذريته إلى مكة، وكانت مكة وادياً غير ذي زرع وكما جاء في رواية البخاري قول ناس من بني جرهم (لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء)( ) ومن عادة الناس وطبيعتهم أنهم يسكنون حيث الماء والكلاء، ولم يعرف من طريق صحيح أن وادي مكة كان به ماء قبل إبراهيم وإسماعيل، فلما قدر الله أن يكون هذا الوادي المبارك مهداً لتوحيده أمر إبراهيم بالهجرة إليه تمهيداً لكونه مهداً لآخر النبوات ومهبط الوحي على خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم.
وإبراهيم هو خليل الرحمن بن آزر( )، بن ناحور بن ساروغ بن راعو بن فالغ بن عامر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح.
روى ابن عساكر عن ابن عباس أنه ولد عليه السلام بغوطة دمشق في قرية يقال لها برزة في جبل يقال له قاسيون.
ثم قال: والصحيح أنه ولد ببابل وشب هناك وأعطاه الله الرشد وهو صغير فدعا أباه إلى التوحيد وناظر قومه والملك نمرود وهو فتى صغير وتزوج سارة. وكانت سارة عاقراً لا تلد، فهاجر إبراهيم بامرأته سارة وابن أخيه لوط بن هاران فخرج بهم من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين فنزلوا حران، وكان أهل حران يعبدون الكواكب والأصنام وكل من كان على وجه آنذاك كفار سوى إبراهيم الخليل وامرأته وابن أخيه لوط عليهم السلام وكان الخليل عليه السلام هو الذي أزال الله به تلك الشرور فإن الله سبحانه وتعالى أتاه رشده في صغره وابتعثه رسولاً واتخذه خليلاً في كبره ((وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ)) [الأنبياء:51].
فدعا الناس إلى عبادة الله وكان أول دعوته لأبيه، ثم قومه وناظرهم بحجة بالغة كما حكى القرآن وقال الله تعالى عنها: ((تِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)) [الأنعام:83].
وذكر عن أهل الكتاب أنه لما قدم الشام أوحى الله إليه: إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك فابتنى إبراهيم مذبحاً لله شكراً على هذه النعمة وضرب قبة شرقي بيت المقدس ثم انطلق مرتجلاً إلى التيمن( ) وهي الأرض المقدسة التي كان فيها قحط شديد وغلاء فارتحلوا إلى مصر، وكان ملك مصر إذ ذاك جائراً جبارا وقد أخبر عن إبراهيم وسارة وأن سارة من أجمل الناس وأحسنهم فأرادها لنفسه غصباً كما روى البخاري: بينما هو ذات يوم وسارة إذا أتى على جبار من الجبابرة فقيل له ههنا رجل معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه وسأله عنها فقال: من هذه؟ قال: أختي فأتى سارة فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وأن هذا سألني فأخبرت أنك أختي فلا تكذبيني فأرسل إليها فلما دخلت عليه ذب يتناولها فأخذ فقال أدعي الله لي ولا أضرك فدعت الله فأطلق ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد فقال: أدعي الله لي ولا أضرك فدعا بعض حجبته فقال: إنك لم تأتني بإنسان وإنما أتيتني بشيطان، فأخدمها هاجر فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده مهيم( ).؟ فقالت: رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره وأخدم هاجر( ) أي أعطاها خادمة وأمة لها.
ثم إن الخليل عليه السلام رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن وهي الأرض المقدسة التي كان فيها ومعه أغنام وعبيد ومال جزيل وصحبتهم هاجر القبطية المصرية.
وقيل: سبب خروجه من مصر قول الملك الجبار أخرجوها من أرضي.
ونقل عن أهل الكتاب أن إبراهيم عليه السلام سأل الله ذرية طيبة وأن الله بشره بذلك وأنه لما كان لإبراهيم عليه السلام ببلاد بيت المقدس عشرون سنة، قالت سارة لإبراهيم عليه السلام: إن الله قد أحرمني من الولد فأدخل على أمتي هذه (تعني هاجر) لعل الله يرزقني منها ولداً، فلما وهبتها له، دخل بها إبراهيم عليه السلام فحين دخل حملت منه، قالوا فلما حملت ارتفعت نفسها وتعاظمت على سيدتها فغارت منها سارة فشكت ذلك إلى إبراهيم فقال لها: افعلي بها ما شئت فخافت هاجر فهربت فنزلت عند عين هناك فقال لها ملك من الملائكة: لا تخافي فإن الله جاعل من هذا الغلام الذي حملت خيراً، فرجعت هاجر ووضعت إسماعيل عليه السلام ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة قبل مولد إسحاق بثلاث عشرة سنة.
ولما ولد إسماعيل اشتدت غيرة سارة منها، وطلبت من الخليل أن يغيب وجهها عنها، فذهب بها وبولدها فسار بهما حتى وضعهما حيث مكة اليوم.. وإسماعيل رضيع إذ ذاك، فبهجرة إبراهيم بابنه إسماعيل وأم إسماعيل هاجر حصلت نشأة مكة وعمرانها.
ودعا الخليل عليه السلام دعائه المشهور الذي حكاه الله رب العزة عنه: ((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)) [إبراهيم:37]( ).
وروى البخاري عن ابن عباس: {أول ما اتخذ النساء المنطق( ) من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقاً لتعفي( ) أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل - وهي ترضعه - حتى وضعها عند البيت عند دوحة( ) فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعها هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً.
وجعل لا يلتفت إليها.
فقالت له: الله أمرك بهذا؟
قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: ((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)) [إبراهيم:37] حتى بلغ: ((يَشْكُرُونَ)) [إبراهيم:37] وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت إليه يتلوى أو قال يتلبط( ) فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليها، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فذلك سعي الناس بينهما}، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقال: صه تريد نفسها ثم تسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبة - أو قال - بجناحه، حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقاءها وهو يفور بعدما تغرف.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال - لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً}، قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن ههنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه وأن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة( ) من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء( )
فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً( )، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي، وما فيه ماء فأرسلوا جرياً( ) أو جريين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا.
قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا:
أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟
فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء.
قالوا: نعم.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس}، فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم( ) وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سأل عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة فشكت إليه.
قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس( ) شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته وسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته: أنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك.
قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك فطلقها، وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد، فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا.
قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم.
فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله.
فقال: ما طعامكم؟
قالت: اللحم.
قال: فما شرابكم؟
قالت: الماء.
قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه}.
قال: فهما لا يخلو عليهما أحد إلا لم يوافقاه.
قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه.
فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟
قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، واثنت عليه، فسألني عنك، فأخبرته فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته: أنا بخير.
قال: فأوصاك بشيء؟
قالت نعم، هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك.
قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري( ) نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال فأصنع ما أمرك ربك.
قال: وتعينني؟
قال: أعينك.
قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها.
قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له. فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [البقرة:127].
قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [البقرة:127]( ).
دعوة أبينا إبراهيم عليه السلام لمكة وأهلها:
قال تعالى حكاية عن دعوة إبراهيم خليله عليه السلام: ((رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) [البقرة:126].
قال بعض العلماء، وكان هذا الدعاء لما جاء بإسماعيل وهاجر في وادي مكة وكان آنذاك قفراً لا أنيس ولا جليس. ولذلك نكر البلد ودعا أن يجعل الله هذا الوادي بلداً.
ثم لما أهل بالسكان وجاء يزور إسماعيل في بعض المرات دعا مرة أخرى، كما حكاه سبحانه وتعالى: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ)) [إبراهيم:35] * ((رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [إبراهيم:36] * ((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)) [إبراهيم:37]( ).
فدعا خليل الله أن يجعل الله هذا البلد آمناً مطمئناً في هذا الوقت الذي أسكن فيه ذريته. ولا أنيس فيه ولا جليس. ولا زرع ولا ضرع وفي جميع الأوقات.
وسأل الله أن يرزق مؤمني أهل مكة من الثمرات. ليكون ذلك عوناً لهم على طاعتك دون كافريهم. خص بمسألة ذلك للمؤمنين دون الكافرين لأن إبراهيم عليه السلام لما سأل الله تعالى أن يجعل من ذريته أئمة يقتدي بهم كما في قوله عز وجل: ((وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) [البقرة:124].
فلما علم الخليل أن الظالم والكافر لا يناله عهد الله وولايته خص في دعاءه هذا بسؤال ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة المؤمن منهم دون الكافر. فقال تعالى: {إني قد أجبت دعاءك وسأرزق مع مؤمني أهل مكة كافريهم أيضاً فأمتعهم به قليلاً}.
روى ابن مردويه بإسناد حسن عن ابن عباس قال: كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس. فأنزل الله تعالى ومن كفر أيضاً أرزقهم كما أرزق المؤمنين أأخلق خلقاً لا أرزقهم أمتعهم قليلاً ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير.
ثم قرأ ابن عباس: ((كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)) [الإسراء:20]( ).
وهذا كقوله تعالى: ((مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)) [يونس:70].
وهذا من رحمة الله ورأفته بعباده وصبره على أعمالهم. يرزقهم مع كرهم به وبغيهم عليه، ولا يميتهم جوعاً.
كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى رضي الله عنه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ليس أحد. أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله. إنهم ليدعون له ولداً وإنه ليعانيهم ويرزقهم}( ).
والحاصل أن الله عز وجل استجاب دعاء خليله في رزقهم بالثمرات في هذا الوادي غير ذي الزرع فجبي إليه أنواع الثمرات من كل صوب وحدب كما قال تعالى: ((أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا)) [القصص:57]، فما أكثر الثمار المجباة المجلوبة إلى مكة حتى إنها ليجلب في بعض الأحيان ثمار من بلاد نائية لا يراها أهل البلد في بلدهم، فسبحان العلي القدير.
كما دعا إبراهيم عليه السلام أن يجعل الله تعالى قلوب المسلمين تميل وتهفوا إليهم وإلى بلدهم مكة دائماً. فلا تقضي منه وطراً، كلما رجعت منه زادت إليه شوقاً، وليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة المشرفة والطواف والصلاة حول الكعبة والناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.
قال ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد وسعيد بن جبير وغيره. لو قال: أفئدة الناس، لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم. ولكن قال من الناس، فاختص به المسلمون( ).
ودعا إبراهيم الخليل أيضاً فقال: ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) [البقرة:129].
قال ابن كثير رحمه الله: يقول الله تعالى إخباراً عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم أي من ذرية إبراهيم، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلوات الله وسلامه عليه رسولاً في الأميين إليهم وإلى سائر الأعجميين من الإنس والجن كما قال الإمام أحمد: أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك. دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي. ورؤياي أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين}( ).
وكذلك رواه ابن وهب والليث وكاتبه عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح.
وتابعه أبو بكر بن أبي مريم عن سعيد بن سويد به، وقال الإمام أحمد أيضاً: أخبرنا أبو النضر أخبرنا الفرج أخبرنا لقمان بن عامر، قال: سمعت أبا أمامة قال: {قلت يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بي ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام}( ).
والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام ولم يزل في ذكره في الناس مذكوراً مشهوراً سائراً حتى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل لنا وهو عيسى بن مريم عليه السلام حيث قام في بني إسرائيل خطيباً وقال: إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، ولهذا قال في هذا الحديث دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بن مريم. اهـ( ).
فبعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ذرية الخليل ومن أهل مكة وجعله خاتم النبيين. فتلا في الناس آياته وعلم الكتاب والحكمة وترك الناس على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. فصارت مكة أحب البلاد إلى الله ورسوله روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: {لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وعك( ) أبو بكر وبلال فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع( ) عنه الحمى يرفع عقيرته( ):
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً بواد وحولي إذخر وجليل( )
وهل أردن يوماً مياه مجنة( ) وهل يبدون لي شامة وطفيل( )
وقال: اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة، قال وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله قال فكان بطحان( ) يجرى نجلاً يعني ماء آجناً( )، وروى الترمذي وابن حبان في صحيحه والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني ما سكنت غيرك}.
قال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي( ).
وقال ابن حجر: وهو حديث صحيح أخرجه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم( ).
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه أيضاً أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار أراه قال: التفت إلى مكة فقال: {أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب البلاد إلي فلو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج عنك، فأعتى الأعداء من عتا على الله في حرمه أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول( ) الجاهلية}، فأنزل الله تبارك وتعالى: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ)) [محمد:13]( ).
قال القرطبي: وهو حديث صحيح( ). وأخرج الترمذي وأحمد من ثلاث طرق وعبد بن حميد عن عبد الله بن عدي بن الحمراء قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحزورة( ) فقال: {والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت}، وفي إحدى طرق أحمد: قال عبد الرزاق: والحزورة عند باب الحناطين.

مكة أفضل أم المدينة؟
ينبغي أن يعلم أن تفضيل مكة على المدينة وبالعكس ليس فيه فائدة كبيرة، فإن البلدين أكرم بلاد الله عند الله وعند رسوله وعند المسلمين، فالبلد الذي ولد فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم وتربى فيه وبلغ أربعين ثم نال النبوة فيه، والبلد الذي جعله الله مهاجرة ومهبط أكثر شرائعه، وكان منطلق المجاهدين لإخراج الناس من عبادة الناس إلى عبادة الله الواحد القهار، ثم ضم جسده الشريف بعد أن التحق بالرفيق الأعلى. كانا من أفضل بلاد الله وأحبها إلى قلوب المؤمنين.
وربما إذا تكلم أحد بتفضيل أحدهما على الآخر لعده عامة الناس سوء الأدب مع هذين البلدين الكريمين.
وهما لا شك فيه أن كثيراً من الناس ينظرون في هذه القضية بنظر العاطفة، عاطفة الحب والفداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ويجعلون أو يظنون مظهر هذا الحب في تفضيل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم على غيرها من البلاد.
ولذلك نرى بعض أولئك يقصدون هذه البلاد المقدسة بنية الحج والعمرة نراهم لا يحرمون من ميقاتهم بل ينزلون من الباخرة أو الطائرة ويتوجهون من هناك إلى المدينة النبوية الشريفة ويقولون: لابد وأن نحضر أولاً على عتبة النبي صلى الله عليه وسلم، فيذهبون أولاً إلى المدينة وفي فعلتهم هذه مخالفة صريحة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته، فالواجب على قاصد الحج أو العمرة ألا يتعدى ميقاته إلا وهو محرم. وإن أغلب هؤلاء يعتقدون عقائد مخالفة للشريعة الإسلامية من جواز التوسل والاستغاثة والسؤال من النبي صلى الله عليه وسلم والإطراء في حقه بما لا يرضاه الله ورسوله فداه أبي وأمي. وهذه الأعمال عين الشرك الذي نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن واحداً منهم ليجد الشعور بالرهبة والرغبة والرجاء والخوف عند قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم ما لا يجده ولو مرة واحدة في عمره عند دخوله في المسجد الحرام أو عند وقوفه بين يدي الله عز وجل ولو في ظل الكعبة المشرفة.
ولو علم أمثال هؤلاء أن المريد للحج أو العمرة يجب عليه أن لا يتعدى ميقاته إلا بالإحرام، فإذا أحرم فلا بد أن يقدم أول ما يقدم إلى مكة لما فعلوا ما يفعلون. ولو علم هؤلاء وآمنوا بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في نهيه عن الإطراء في حقه، لما اعتقدوا هذا الاعتقاد المخالف لتعليم النبي صلى الله عليه وسلم ولو آمنوا حق الإيمان بقول الله تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)) [آل عمران:31] لما انجرفوا وراء عواطفهم ولرأوا السعادة في اتباع أوامره واجتناب نواهيه.
ولعل هذا الفصل يكون مفيداً لأولئك الذين يعتقدون مالا ينبغي اعتقاده، ولعل لأجل هذا بحث أسلافنا في مسألة تفضيل مكة على المدينة وبالعكس بحثاً وافياً نشير إليه باختصار.
فذهب مالك رحمه الله وأكثر أتباعه فيما نقل عنهم ابن حزم في المحلي وابن عبد البر في التمهيد إلى أن المدينة أفضل من مكة، وذكر حجتهم، منها قوله صلى الله عليه وسلم: {أن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة}.
ومنها: {اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة}. ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: {المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها وإنما تنفي الناس، كما ينفي الكير خبث الحديد}.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: {يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرج أحد منهم رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه} ( ).
وقال ابن عبد البر:
وكان مالك رضي الله عنه يقول: [[من فضل المدينة على مكة أني لا أعلم بقعة فيها قبر نبي معروف غيرها]]( ).
وقال بأفضلية مكة على غيرها من البلاد الإمام أبو حنيفة والشافعي وأحمد في أصح الروايتين عنه وابن وهب وابن حبيب من المالكية( ).
واحتج ابن عبد البر لتفضيل مكة على المدينة فقال: [] والمواضع كلها والبقاع أرض الله، فلا يجوز أن يفضل منها شيء على شيء إلا بخبر يجب التسليم له، وإني لأعجب ممن يترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وقف بمكة على الحزورة وقيل: الحجون وقال: {والله إني أعلم أنك خير أرض الله وأحبها إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت}. وهذا حديث صحيح.
فكيف يترك مثل هذا النص الثابت ويمال إلى تأول لا يجمع عليه.
ثم رد على حجج من احتج لتفضيل المدينة، فقال: إنما يحتج بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبفضائل المدينة وبما جاء فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه من أنكر فضلها وكرامتها وأما من أقر بفضلها وعرف لها موضعها وأقر أنه ليس على وجه الأرض أفضل بعد مكة منها فقد أنزلها منزلتها وعرف لها حقها واستعمل القول بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وفيها، لأن فضائل البلدان لا تدرك بالقياس والاستنباط وإنما سبيلها التوقيف( ).
ثم أعاد المسألة وذكر الروايات في تفضيل الصلاة بمكة على الصلاة بالمدينة ثم قال: فهذا عمر وعلي وابن مسعود وأبو الدرداء وابن عمر وجابر يفضلون مكة ومسجدها وهم أولى بالتقليد( ).
الترغيب في سكنى مكة:
في الفصل الماضي فيما ذكر من حب الله ورسوله مكة المشرفة أكبر ترغيب في سكناها.
وروى الأزرقي عن ابن أبي نجيح عن عائشة أنها قالت: لولا الهجرة لسكنت مكة، إني لم أر السماء بمكان أقرب إلى الأرض منها بمكة، ولم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمأن بمكة، ولم أر القمر بمكان قط أحسن منه بمكة( ).
ورجال إسناده ثقات إلا أنه منقطع، عبد الله بن أبي نجيح لم يدرك عائشة رضي الله عنها وهو مدلس أيضاً.
وروى الجندي في فضائل مكة بإسناد حسن عن أبي الطفيل قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[أقم بمكة وان أكلت بها العضاة يعني السمر]]( ).
وتكلم الأئمة في المجاورة والسكنى بمكة فبعضهم كرهها وبعضهم استحبها.
قال الفاسي:
المجاورة بمكة مستحبه عند أكثر العلماء منهم الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة وابن القاسم صاحب مالك، واستحبها أيضاً أحمد بن حنبل لأنه روى عنه أنه قال: {ليت لي الآن مجاورة بمكة}.
وممن كره المجاورة بمكة أبو حنيفة وفهم ذلك ابن رشد المالكي من كلام وقع لمالك. وسبب الكراهية عند من كرهها خوف الملل وقلة الاحترام لمداومة الأنس بالمكان، وخوف ارتكاب الذنب هنالك فإن المعصية فيها ليست كغيرها.
والذين لم يكرهوها قالوا: إنها فضيلة، وما يخاف من ذنب فيقابل بما يجري لمن أحسن من تضعيف الثواب.
وقال النووي في الإيضاح:
إن المختار استحباب المجاورة بمكة لما. فيها من تضاعف الحسنات والطاعات، وقد جاور بها ممن يقتدى به من سلف الأئمة وخلفها خلائق لا يحصون.
ومن أكبر الأدلة على استحباب مجاورتها تمني النبي صلى الله عليه وسلم في سكناها وتمنى بلال العود إلى مكة كما ورد في شعره:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخز وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل( )
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في سكنى المدينة وحيث أن مكة أفضل منها فتكون سكناها أفضل وأرغب.
وقد ذكر المحب الطبري أربعة وخمسين نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن جاور بمكة وسكنوها ومات أكثرهم فيها( ).
ولكن ينبغي لمن أكرمه الله تعالى بمجاورة بيته أن يتأدب بأدبه ويراقب نفسه لئلا يرتكب في هذا البلد عملاً يخالف الشرع الشريف، فمن يرد فيه بإلحاد بظلم فقد وعده الله بإذاقته العذاب الأليم فما بال من ارتكب وأصر فيه على الظلم وارتكاب المعاصي.
وفق الله الجميع للتأدب بأدب الشريعة السمحة في جميع الأحوال.
أهل مكة كانوا ينادون بأهل الله:
روى المحاملي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على مكة وكان شديداً على المريب ليناً على المؤمنين وكان يقول: والله لا أعلم متخلفاً عن هذه الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه فإنه لا يتخلف عنها إلا منافق، فقال أهل مكة: يا رسول الله استعملت على أهل الله أعرابياً جافياً، فقال: {أني رأيت فيما يرى النائم أنه أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب فقعقعها حتى فتح له ودخل}( ).
وروى الأزرقي عن ابن أبي مليكة ومعاذ بن أبي الحارث بإسنادين عنهما، مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم حين استعمل عتاب بن أسيد على مكة قال: {هل تدري على من استعملتك: استعملتك على أهل الله}( ).
ورواه الفاكهي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً وفي إسناده نصر بن باب وهو ضعيف( ).
وروى الأزرقي والفاكهي عن ابن أبي مليكة قال: [[كان أهل مكة فيما مضى يلقون فيقال لهم: يا أهل الله وهذا من أهل الله]]( ).
وزاد الفاكهي: وقال عبد المطلب في آل الله: ونحن آل الله في بلده لم يزل ذاك على عهد إبراهيم.
وعن الحسن بن مسلم قال: استعمل