بوابة الحرمين الشريفين
معمارية الحرمين الشريفين
رسوم المسجد الحرام الفنية في المخطوطات الأثرية

رسوم المسجد الحرام الفنية في المخطوطات الأثرية
مقدمة:
يعد المسجد الحرام بمكة المكرمة أهم المقدسات ليس عند المسلمين فحسب بل أهم المقدسات في تاريخ الإنسانية جمعاء فهو أول بيت وضع للناس كي يتعبدوا فيه.
وعند الحديث عن المسجد الحرام يكون الحديث عن تاريخ الإنسانية على هذه الأرض بل إن المصادر التاريخية تذكر أن البيت الحرام قد بنته الملائكة قبل نزول آدم إلى الأرض، هذا وقد مرت الكعبة المشرفة عبر تاريخها الطويل بأحداث جسام فتعاقبت عليها دول و دول وحدث لها العديد من التطورات في عمارتها، تطورت بمرور الزمن وتعاقب الحكام.
ويعد العصر الإسلامي من أهم العصور التي تطورت فيها عمارة الكعبة حيث أعيد بناؤها عدة مرات ثم تطورت العمارة حتى وصلت إلى ماعليه الآن من فخامة وبهاء.
ونظرا للمكانة التي حظيت بها الكعبة على مر العصور فقد ورد الكثير من رسوم المسجد الحرام في المخطوطات كما ورد الكثير من رسوم المسجد الحرام على البلاطات الخزفية على جدران المساجد الأثرية وخصوصا في العصر العثماني ومن هنا كانت فكرة عرض هذا الموضوع في جزأيه:
1- الرسوم في المخطوطات الأثرية.
2- الرسوم على البلاطات الخزفية.
ونبدأ بأولهما، والله الموفق.

 

 

المسجد الحرام بمكة المكرمة على مر العصور
قال الله تعالى في كتابه العزيز: بسم الله الرحمن الرحيم: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ))[إبراهيم:35[ ((إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ))[النمل:91[ ((لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ))[البلد:1] * ((وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ))[البلد:2] * ((وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ))[البلد:3].
((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ))[التين:1] * ((وَطُورِ سِينِينَ))[التين:2] * ((وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ))[التين:3].
أجمع المفسرون وعلى رأسهم ابن كثير( ) على أن البلدة الوارد ذكرها بهذه الآيات الكريمة هي مكة، وقال صلى الله عليه وسلم عندما أخرج من مكة {والله إنك لأحب البقاع إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت} وقالت عائشة رضي الله عنها {لولا الهجرة لسكنت مكة؟ فإني لم أر السماء بمكان قط أقرب إلي الأرض منها بمكة، ولم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمأن بمكة}( ).
ولمكة أسماء كثيرة وردت في القرآن الكريم منها مكة، وبكة، وأم القرى، وقد قيل في تفسير كلمة مكة: إنها مشتقة من كلمة مكرب اليمنية والتي تتكون من (مك) بمعنى بيت ورب فهي بيت الرب، كما تنطق بكة على عادة أهل الجنوب في قلب الميم باء( )، وقيل: إن المقصود ببكة هو البلد، أما المقصود بمكة فهو البيت الحرام( )، ويعدد لنا الأزرقي أسماء مكة فيقول إنها مكة، وبكة، وأم رحم، وهي أم القرى، وهي صلاح، وهي الحاطمة، تحطم من استخف بها، وهي الباسة تبسهم بساً، أي تخرجهم إخراجاً إذا غشموا أو ظلموا( ).
ويضيف القطبي إلى جانب الأسماء السابقة لمكة اسم الوادي، والطيبة، وقرية النمل( ) وترجع أهمية مكة إلى وجود البيت الحرام فيها.
وهو أول بيت وضع للناس، وفي ذلك.
يقول الله تعالى: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ))[آل عمران:96] ((فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ))[آل عمران:97].( )
وكما كان لمكة عدة أسماء كان لبيت الله الحرام أيضا عدة أسماء يذكرها الأزرقي قائلا: (هي الكعبة: لأنها مكعبة، وهي البيت العتيق، أعتقها الله من الجبابرة، فلا يتجبروا فيها، وكانت تدعى قادسا من القدسية، وهي البيت الحرام، والبيت المعمور( )
وفيما يلى دراسة للكعبة وتطور عمارتها على مر العصور منذ بدء الخليفة وحتى نهاية العصر العثماني.
* هكذا في الأصل، والصواب: بتجبورن.
المسجد الحرام قبل العصر الإسلامي:
الكعبة قبل عهد سيدنا إبراهيم:
ذكر أبو الوليد الأزرقي في كتابه (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار) نقلا عن محمد بن علي بن الحسين قال: كنت مع أبي بمكة، فبينما هو يطوف بمكة جاءه رجل، فوضع يده على ظهره، فالتفت أبي إليه، فقال له الرجل: السلام عليك يا ابن بنت رسول الله، إني أريد أن أسألك عن بدء الطواف بهذا البيت: لم كان؟ وأنى كان؟ وكيف كان؟ فقال له أبي: أما بدء الطواف بهذا البيت فإن الله تعالى قال للملائكة: ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً))[البقرة:30]، فقالت الملائكة: أي رب، خليفة من غيرنا ممن يفسد فيها ويسفك الدماء ويتحاسدون ويتباغضون ويتباغون، أي رب، اجعل ذلك الخليفة منا، فنحن لا نفسد فيها، ولا نسفك الدماء، ولا نتباغض، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونطيعك ولا نعصيك، فقال الله تعالى: ((إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ))[البقرة:30]( ).
أما البناء الثاني للكعبة فهو بناء سيدنا آدم، ويذكر الأزرقي بهذا الصدد نقلاً عن عبد الله بن أبي زياد أنه قال: لما أهبط الله تعالى آدم عليه السلام من الجنة قال: يا آدم، ابن لي بيتاً بحذاء بيتى بيتي الذي في السماء تتعبد فيه أنت وولدك كما تتعبد ملائكتي حول عرشي، فهبطت عليه الملائكة فحفر حتى بلغ الأرض السابعة، فقذفت فيه الملائكة الصخر حتى أشرف على وجه الأرض، وهبط آدم عليه السلام بياقوتة حمراء مجوفة لها أربعة أركان بيض، فوضعها على الأساس.( )
وأما البناء التالي للكعبة فبناء أولاد سيدنا آدم، ويذكر الأزرقي في هذا الصدد: أنه لما مات آدم عليه السلام رفعت هذه الياقوتة الحمراء التي وضعت على أساس البيت الحرام.
وفي الواقع أننا لا نستطيع أن نجزم بصحة الروايات القائلة ببناء الكعبة قبل عهد إبراهيم عليه السلام، وفي الوقت ذاته لا نستطيع أن نكذبها أو نتجاهلها.
بناء إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام للكعبة:
ذكر الأزرقي أن موضع الكعبة قد اختفى ودرس في زمن الغرق في عهد نوح عليه السلام، وكان موضعه أكمة حمراء مدورة لا تعلوها السيول، غير أن الناس يعلمون أن موضع البيت في هذه الناحية، ولكن لا يعلمون مكانه، ولا ثبوت موضعه( ).
وقد ظل الحال كذلك حتى أوحى لإبراهيم عليه السلام بمكانه، وفي ذلك يقول الله تعالى: ((وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ))[الحج:26] * ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ))[الحج:27] * ((لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ))[الحج:28].( ).
وهكذا أمر الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه السلام ببناء البيت بعد أن أوحى إليه بمكانه، ويستمر القرآن الكريم في ذكر بناء سيدنا إبراهيم عليه السلام للكعبة وتعاون سيدنا إسماعيل معه في بنائها، فيقول سبحانه وتعالى: ((وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ))[البقرة:127] * ((رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))[البقرة:128].( ).
أما عن شكل الكعبة التي بناها سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام فيذكر الأزرقي أن ارتفاعها تسعة أذرع، وطول ضلعها الشرقي اثنان وثلاثون ذراعا، والغربي واحد وثلاثون ذراعاً، والشمالي اثنان وعشرون ذراعاً، والجنوبي عشرون ذراعاً، وجعل بابها بالأرض غير مبوب( ) وحفر إبراهيم عليه السلام جبا في بطن البيت على يمين من يدخله؟ يكون خزانة للبيت، يلقى فيه ما يهدى للكعبة، وجاء إليه جبريل عليه السلام بالحجر الأسود، ولم يكن في بادئ أمره أسود بل كان أبيضاً يتلألأ من شدة بياضه، وقيل: إن شدة سواده ناتجة من إصابته بالحريق عدة مرات في الجاهلية والإسلام( ).
وذكر الإمام أحمد بن حنبل في مسنده بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {الحجر الأسود من الجنة، وكان أشد بياضا من الثلج، حتى سودته خطايا أهل الشرك}( ).
حجر إسماعيل:
ذكر الأزرقي أن إبراهيم عليه السلام قد بنى إلى جوار الكعبة الحجر، وهو عريش من أراك( )، تقتحمه العنز، فكان زربا لغنم إسماعيل( )، وقد عرف حجر إسماعيل بعد ذلك باسم الحطيم، ويذكر الأزرقي أن سبب تسميته بهذا الاسم هو أن الناس يزدحمون على الدعاء فيه حتى أنهم يحطمون بعضهم البعض( ).
وقد كره ابن عباس رضي الله عنه هذه التسمية وقال: من طاف فليطف من وراء الحجر ولا تقولوا الحطيم( ).
مقام إبراهيم:
يذكر لنا الطبرى أنه أثناء بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة، لما ارتفع البنيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر ليستطيع أن يكمل البنيان، وقد عرف هذا الحجر بعد ذلك باسم مقام إبراهيم( ).
* الكعبة في عهد أولاد إسماعيل عليه السلام وحتى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم: ازداد العمران حول الكعبة بعد أن دعا إبراهيم ربه لهذه البلدة بالبركة والعمران، وكانت قبيلة جرهم هي أولى القبائل التي استقرت حول الكعبة، واستمرت جرهم تلي أمر البيت فترة من الزمن إلى أن قدمت قبيلة يمنية هاجرت من الجنوب بعد تهدم سد مأرب، وعرفت بقبيلة خزاعة، واحتكت خزاعة بجرهم، فتقاتلت القبيلتان، وانتصرت خزاعة، ووليت أمر البيت، وخرجت جرهم عن هذا الوادي، كما خرج أبناء إسماعيل وتفرقوا حول مكة وفي تهامة( ).
وقد بدأت مكة تتطور أيام خزاعة، فقد عمل عمرو بن لحي على تنشيط الحج إلى الكعبة بعد أن كان أمر مكة قد تدهور والحج إليها قد قل بسبب بغي جرهم واعتدائها على القوافل والتجار والحجاج الذين يمرون بمكة أو يفدون إليها للمتاجرة، وقيل: إن عمرو بن لحي هو أول من نصب الأصنام حول الكعبة( ).
وقد ظلت خزاعة فترة طويلة من الزمن( ).
تلي أمر مكة، وتقوم على سدانة البيت، وإن ظلت بعض مناصب الحج فى يد بطون كنانة التي تنسب إلى إسماعيل عليه السلام والتي بقيت حول مكة( ).
على أن تاريخ مكة الحقيقي يبدأ من أيام قصي بن كلاب بن مرة القرشى الذي ولي أمر مكة والكعبة في حوالي منتصف القرن الخامس الميلادي، حيث استطاع أن يجلي قبيلة خزاعة من مكة وفرض سلطانه على بطون كنانة، وأنزل قريشاً مكة وقسمها بين بطونها، فأقر له القوم جميعاً بالملك عليهم، واجتمعت مناصب مكة كلها في يده( )، ويذكر القطبي أن بعض الناس يروي أن قصي بن كلاب قد هدم البيت وأعاد بناءه، ويعلق على ذلك قائلا: إنه يعتقد أنه مجرد تجديد وليس بناء كلياً حيث إن قصي بن كلاب جرد الكعبة وسقفها بخشب الدوم الجيد وجريد النخل( )، ومن أبرز زعماء مكة الذين جاءوا بعد قصي بن كلاب، عبد المطلب بن هاشم فى النصف الأول من القرن السادس الميلادي، وكان أكبر عمل أظهر شخصيته هو إعادته حفر بئر زمزم التي كانت قد غارت مياهها وطمست معالمها في أواخر أيام جرهم( ).
ومن أشهر الحوادث التي مر بها البيت الحرام بعد ذلك حادثة الفيل، ويحدثنا الطبري عن هذه الحادثة فيقول: (إن أبرهة كان قد أراد أن يصرف نظر العرب عن الكعبة إلى كنيسة بناها في اليمن أسماها (القليس)، وإن العرب لم ينصرفوا إليها، فغضب أبرهة وعزم على هدم الكعبة، فجهز جيشاً كبيراً تتقدمه الأفيال، وقصد الكعبة، فلما اقترب من مكة أخلى أهل مكة دورهم، وصعدوا إلى الجبال، أما جيش أبرهة والذي تتقدمه الأفيال فلقد انثنت الأفيال عن الهجوم على البيت، وامتنعت عن ذلك، ثم أرسل الله على هذا الجيش طيوراً كثيفة كل طائر يمسك بحجر صغير يلقيه على أحد أفراد هذا الجيش إلى أن تمت إبادته( ).
وقد سجل لنا القرآن الكريم هذه الحادثة.
في قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ))[الفيل:1] * ((أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ)) [الفيل:2] * ((وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ))[الفيل:3] * ((تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ))[الفيل:4] * ((فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ))[الفيل:5].( ) صدق الله العظيم.
بناء قريش للكعبة:
بعد عام الفيل بحوالي ثلاثين عاماً حدث حريق كبير بالكعبة، ويذكر لنا الأزرقي سببه فيقول: (أجمرت (بخرت) امرأة من قريش الكعبة فاحترقت، فوهى البيت للحريق الذي أصابه، ثم أعقب ذلك سيل، زاد من ضعفه، فتشاغلت قريش في هدم الكعبة، فهابوا هدمها، فقال لهم الوليد بن المغيرة: أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة؟ قالوا بل نريد الإصلاح، قال: فإن الله لا يهلك المصلحين، قالوا: من الذي يعلوها فيهدمها، قال الوليد أنا أعلوها فأهدمها، فارتقى الوليد على جدار البيت ومعه الفأس وقال: اللهم إنا لا نريد إلا الإصلاح، ثم هدم، فلما رأت قريش ما هدم منها ولم يأتهم ما يخافون من العذاب هدموا معه( ).
ويصف لنا الأزرقي طريقة بناء الكعبة وشكلها فيقول: إن قريشا بنوا حتى ارتفع البناء أربعة أذرع وشبراً من الحجارة، ثم وضعوا بابها مرتفعاً على هذا الذرع، ثم رفعوها بعد ذلك حتى بلغوا السقف، وبنوا لها سقفا خشبياً مسطحاً، وجعلوا فيها من الداخل ست دعائم فى صفين، فى كل صف ثلاث دعائم، من الشق الشامي الذى يلي الحجر إلى الشق اليماني، وجعلوا ارتفاعها من خارجها من الأرض إلى أعلاها ثمانية عشر ذراعاً، وكانت قبل ذلك تسعة أذرع، فزادت قريش ارتفاعها في السماء تسعة أذرع أخرى، وبنوا من أعلاها إلى أسفلها بمدماك من حجارة ومدماك من خشب، وكان الخشب خمسة عشر مدماكاً، والحجارة ستة عشر مدماكاً، وجعلوا ميزابها يسكب في الحجر، وفي بطن الكعبة في الركن الشامي درج يصعد منه إلى ظهرها، وزوقوا سقفها وجدرانها من بطنها ودعائمها بصور الأنبياء وصور الشجر، وصور الملائكة، وظلت هذه الصور حتى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم إزالتها بعد فتح مكة( ).
ويذكر الأزرقي في موضع آخر أن بناء قريش للكعبة لم يكن على قواعد إبراهيم تماماً، فيذكر أن قريشاً قد زادت من ارتفاع الكعبة تسعة أذرع، ونقصت من عرضها ستة أذرع دخلت ضمن حجر إسماعيل( ).
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نجعل الفروق بين الكعبة في عهد سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام وبين الكعبة في عهد قريش في النقاط التالية:
1- الارتفاع: فارتفاع الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام كان 9 أذرع، وارتفاع الكعبة التي بنتها قريش كان 18 ذراعاً.
2- العرض: اختزلت قريش من عرض الكعبة 6 أذرع، فأصبح طول ضلعها الشرقي 26 ذراعاً، بنقص 6 أذرع عن طول ضلعها الشرقي في عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام، وأصبح طول ضلعها الغربي 25 ذراعاً، بنقص 6 أذرع عن طول ضلعها الغربي في عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام، أما ضلعها الشمالي فظل كما كان في عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام (22 ذراعاً(، وكذلك ضلعها الجنوبى (20 ذراعاً)، وقد أدخلت هذه الأذرع الست الناتجة عن تقلص طول الكعبة التي بنتها قريش عن قواعد إبراهيم عليه السلام ضمن حجر إسماعيل، فأصبح الحجر في عهد قريش أكثر اتساعاً منه في عهد إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام.
3- أصبح باب الكعبة في عهد قريش مرتفعاً عن الأرض بمقدار أربعة أذرع، في حين كان مساو للأرض في عهد إبراهيم عليه السلام.
4- أصبح للكعبة في عهد قريش سقف من خشب يستند على ست سوار (أعمدة) في صفين، ولم يكن للكعبة في عهد إبراهيم عليه السلام سقف.
من المعتقد أن جدران الكعبة كسيت بطريقة من المالط اختفت تحتها مداميك الحجر والخشب( ).
ويذكر الأزرقي أن قريشاً قد كست الكعبة بالأنطاع( ).
كما يذكر لنا في موضع آخر اسم الصانع الذي قام بمهمة بناء الكعبة، وهو (باقوم)، وأنه رومي الأصل ملم بصناعة البناء والنجارة، وكان، في سفينة رمى بها البحر إلى الساحل، وقابله الوليد بن المغيرة بجدة، فعهد إليه بالعمل في بناء الكعبة( ).
ويذكر لنا الأزرقي وابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شارك في بناء قريش للكعبة، كما أنه حسم خلاف قريش حول من ينقل الحجر الأسود إلى موضعه بعد إتمام البناء، وذلك بأن وضعه في ثوب، وجعل كل قبيلة تمسك بطرف حتى إذا بلغوا موضعه أخذه ووضعه بيده في موضعه( ).
وقد قام عالم الآثار الإسلامية كريسويل بعمل مسقط ومنظور للكعبة بعد بناء قريش لها سنة 608م، إلا أنه بدراستي لهذين الرسمين (شكل 2) ومقارنتهما بأقوال المؤرخين تبين خطؤهما، حيث جعل (كريسويل) الضلع الشرقي الذي فيه الباب أقل طولاً من الضلع الشمالي والضلع الجنوبي للكعبة، ومن المعروف أن هذا الضلع كان أطول أضلاع الكعبة على مر العصور.

المسجد الحرام في العصر الإسلامي حتى بداية العصر العباسي
الكعبة والمسجد الحرام في العصر الإسلامي:
كما سبق القول فقد شارك رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمارة قريش للكعبة قبل بعثته، وكان له موقف رائع في فض اشتباك قريش حول من يضع الحجر الأسود في موضعه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره وجود الأصنام داخل بيت الله الحرام، ولم يكن يشارك قومه في تعظيمها وتقديسها.
وقد ارتبط المسجد الحرام في بداية بعثة الرسول بحدث هام ورد ذكره في القرآن الكريم وهو الإسراء إلى بيت المقدس، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الإسراء:1].
وحينما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دخل الكعبة، وأمر بالأصنام المقامة فيها فحطمت جميعها، وأزال ما بداخل الكعبة من صور وتماثيل( )، وبعد ستة عشر شهراً من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب أصبحت الكعبة قبلة المسلمين بدلاً من بيت المقدس( )، وقد سجل لنا القرآن الكريم ذلك في قول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ((قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ))[البقرة:144].
وقد جرى النبي صلى الله عليه وسلم على عادة قريش من كسوة الكعبة، وكان يكسوها بالثياب اليمانية( )، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتطييب الكعبة، وقد روى الأزرقي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [[طيبوا البيت؛ فإن ذلك من تطهيره]]، كما روي عنها أيضا أنها قالت: [[لأن أطيب الكعبة أحب إلى من أن أهدي إليها ذهباً وفضة]]( ).
ولم يكن للمسجد الحرام على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جدران تحده، فلم يكن بينه وبين البيوت سور أو حاجز، بل كانت البيوت تحدق به (تطل عليه)، والأزرقة تفتح عليه( ).
المسجد الحرام في عهد الخلفاء الراشدين:
كما سبق القول لم يكن للمسجد الحرام على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جدران تحده، وظل الحال كذلك طوال خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وفي عهد عمر بن الخطاب اتخذ للمسجد الحرام سوراً، وفي ذلك يقول الأزرقي: كان المسجد الحرام ليس عليه جدران محاطة، بل كانت الدور تحدق به من كل جانب، غير أن بين الدور أبوابا يدخل منها الناس من كل نواحيه، فضاق على الناس، فاشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنه دوراً فهدمها، وأبى بعضهم أن يأخذ الثمن، وتمنع من البيع، فوضعت أثمانها في خزانة الكعبة حتى أخذوها بعد ذلك، ثم أحاط عليه جداراً قصيراً، وقال لهم عمر: إنما نزلتم على الكعبة، ولم تنزل الكعبة عليكم( ).
وفي زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه كثر الناس، فوسع المسجد، واشترى من قوم وأبى آخرون أن يبيعوا، فهدم عليهم فصاحوا به، فدعاهم فقال: إنما جرأكم على حلمي عنكم، فقد فعل بكم عمر هذا فلم يصح به أحد، فاحتذيت على مثاله فصحتم بي، ثم أمر بهم إلى الحبس حتى كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فتركهم، وكانت هذه الزيادة سنة 26هـ( )، كما بنى رضي الله عنه للمسجد أروقة، فكان أول من عمل للمسجد أروقة( )، ويذكر الأزرقي أن عثمان بن عفان كان أول من كسا الكعبة بكسوتين: إحداهما من القباطى المصرية، والثانية من البرود اليمانية( )، ويذكر يحيى بن الحسين أن عثمان بن عفان كان أول من بنى المنارات للأذان، وأنها كانت في زمانه مربعة الشكل( )، ولكنه لم يذكر أين بناها، هل في المسجد الحرام بمكة أو في المسجد النبوي في المدينة أو في الاثنين معاً.
المسجد الحرام في العصر الأموي:
لم يكن للمسجد الحرام على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين منبر، وكان الخلفاء يقفون على الأرض في وجه الكعبة والحجر، وكان أول من أدخل المنبر في المسجد الحرام هو معاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك سنة 44هـ حين قدم من الشام ليؤدي فريضة الحج، إذ يقال: إنه أحضر معه حينئذ منبراً من خشب له درجات، وقد خطب عليه في المسجد الحرام ثم تركه به، وظل المنبر بالمسجد، وكان يعمر كلما خرب، ثم نقل في عهد هارون الرشيد إلى عرفات، واستبدل به منبر آخر( )، كما ذكر الأزرقى أن معاوية بن أبي سفيان كسى الكعبة بالديباج مع القباطي( )، وكذا ذكر أن يزيد بن معاوية كسى الكعبة بالديباج الخسرواني( ).
ويذكر لنا الأزرقي أنه كان أمام عبد الله بن الزبير أمران: أولهما: أن يرمم الكعبة، وثانيهما: أن يهدم الكعبة ويعيد بناءها من جديد، وكان من أبرز من حاول إقناع عبد الله بن الزبير بعدم هدم الكعبة والاقتصار على ترميمها عبد الله بن العباس الذى قال له: دعها على ما أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أخشى أن يأتى بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى فيتهاون الناس في حرمتها، ولكن ارقعها، فقال ابن الزبير له: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت الله سبحانه وتعالى( )، ويذكر الأزرقي في موضع آخر أن من أهم العوامل التي دفعت عبد الله بن الزبير إلى الإصرار على هدم الكعبة وإعادة بنائها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين قال لها: {ألم تر أن قومك حين بنوا البيت استقصروا عن قواعد إبراهيم، قالت: فقلت يا رسول الله: ألا تردها على قواعده قال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت}( ).
ويذكر الأزرقي أن هدم الكعبة كان يوم السبت منتصف جمادي الآخرة سنة أربع وستين، وأن ابن الزبير لما هدم الكعبة وسواها بالأرض كشف عن أساس إبراهيم عليه السلام، فوجده داخلاً في الحجر نحو ستة أذرع وشبر، كأنها أعناق الإبل، أخذ بعضها بعضا كتشبيك الأصباع بعضها ببعض، وأن ابن الزبير دعا خمسين رجلاً من وجوه الناس وأشرافهم وأشهدهم على ذلك الأساس( )، فيما ذكر المسعودي أن ابن الزبير أشهد سبعين شيخاً من شيوخ قريش على أن قريشاً حين بنت الكعبة عجزت نفقتهم، فنقصت من سعة البيت نحو سبعة أذرع من أساس إبراهيم الخليل الذي أسسه هو وابنه إسماعيل عليهما السلام( ).
ويصف لنا الأزرقي شكل الكعبة التي بناها ابن الزبير، فيذكر أن ارتفاعها سبعة وعشرون ذراعاً، بزيادة تسعة أذرع عن الكعبة التي بنتها قريش، وهي سبعة وعشرون مدماكاً، وعرض جدارها ذراعان، وأن ابن الزبير قد أضاف إليها الأذرع الست التي تركتها قريش، فأصبحت بنفس مساحة الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام، وجعل لها بابين: بابا شرقيا يدخل منه الناس، وبابا غربيا يخرج منه الناس، وجعل فيها من الداخل ثلاث دعائم (أعمدة مربعة مبنية)، وكانت قريش في الجاهلية قد جعلت فيها ست دعائم في صفين، وجعل ميزابها يسكب فى الحجر، وجعل لها درجة في بطنها في الركن الشامي من خشب يصعد منها إلى ظهرها، ثم كسا الكعبة بالقباطى( ).
ويذكر المسعودي أن ابن الزبير قد جلب أساطين الرخام والفسيفساء والأصباغ المختلفة من الكنيسة التي كان أبرهة الحبشى قد بناها باليمن، واستخدمها في بناء الكعبة( ).
ولم تقتصر عمارة عبد الله بن الزبير للكعبة على هدمها وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام، بل امتدت عمارته لتشمل توسعة المسجد الحرام نفسه، إذ يذكر لنا الأزرقي أن ابن الزبير قد زاد في المسجد الحرام، واشترى دوراً من الناس أدخلها في المسجد، فكان مما اشترى بعض دارنا - يعني دار الأزرقي - قال: وكانت لاصقة بالمسجد الحرام من جهته الشرقية( ).
عمارة الحجاج للكعبة:
عندما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة عهد إلى الحجاج بن يوسف الثقفي بالسير إلى مكة والقضاء على عبد الله بن الزبير، فسار الحجاج حتى نزل بالطائف، فأقام شهراً، ثم زحف إلى مكة في موسم الحج، ونصب المجانيق على جبل أبي قبيس، فتحصن ابن الزبير في المسجد، وأخذت أحجار المجانيق تتساقط على المسجد، فاضطر عبد الله إلى الخروج للقتال مع جماعة من أتباعه، فقاتل قتالاً شديداً حتى قتل عامة من معه، وانتهى الأمر بقتل ابن الزبير في 27 من جمادى الآخرة سنة 73هـ( ).
وبعد أن انتهى الحجاج من أمر ابن الزبير واستتب له الأمر بمكة كتب إلى عبد الملك يقول له: إن ابن الزبير زاد في البيت ما ليس منه، وأحدث فيه بابا آخر، واستأذنه في رد البيت على ما كان عليه في الجاهلية، فكتب إليه عبد الملك: أن سد بابها الغربى الذي فتحه ابن الزبير، واهدم ما زاد فيها من الحجر، واكبسها به
على ما كانت عليه، فهدم الحجاج منها ستة أذرع وشبراً مما يلى الحجر، وبناها على أساس قريش، وكبسها بما هدم منها، وسد الباب الذي في ظاهرها، وترك سائرها لم يحرك منها شيئاً، فكل شيء فيها اليوم( ) بناء ابن الزبير إلا الجدار الذي في الحجر فإنه بناء الحجاج، وسد الباب الذي في ظهرها، وسد ما تحت عتبة الباب الشرقي لارتفاع أربعة أذرع وشبر، والدرجة التي في بطنها.
والمصراعان اللذان يغلقان على الباب هما أيضاً من عمل الحجاج( ).
ويذكر ابن هشام أن الحجاج هو أول من كسا الكعبة بالديباج( ).
المسجد الحرام في عهد الوليد بن عبد الملك:
يذكر لنا الأزرقي أعمال الوليد بن عبد الملك بالمسجد الحرام، ويذكر أنه أول من نقل إليه أساطين الرخام (أعمدة الرخام)، وعمله بطاق واحد (صف واحد) بأساطين الرخام، وسقفه بالساج المزخرف، وجعل على رؤوس الأساطين صفائح الذهب، وآزر المسجد بالرخام من داخله، وجعل في وجه الطيقان (الأقواس فوق الأعمدة) وفي أعلاها الفسيفساء (قطع صغيرة من الزجاج تكون أشكالاً وزخارف)( ).
كما قام الوليد بن عبد الملك باستبدال ميزاب آخر من الذهب( ) بميزاب الكعبة، وأهدى إلى الكعبة المشرفة هلالين وسريراً من ذهب.

المسجد الحرام في العصر العباسي
تعاقبت على المسجد الحرام في العصر العباسى العديد من العمائر، أهمها عمارات الخلفاء أبي جعفر المنصور سنة 139هـ، والمهدى سنة 164هـ، والمعتضد سنة 279هـ، والمقتدر سنة 376هـ.
عمارة أبي جعفر المنصور للمسجد الحرام:
وجه الخليفة أبو جعفر المنصور اهتماماً كبيراً للمسجد الحرام، فزاد في مساحته، وأصلح في عمارته، وقد ذكر لنا الأزرقي هذه الزيادة، فذكر أن أبا جعفر المنصور زاد المسجد الحرام من شقه الشامي (الشمالي) الذي يلي دار الندوة، ولم يزد في أعلاه، ولا في شقه الذي يلي السوادي( )، على أن التخطيط الداخلى للمسجد الحرام في عهد أبي جعفر لم يتغير عما كان عليه في عهد الوليد بن عبد الملك، إذ أن أبا جعفر قد هدم كلاً من الرواقين الموجودين في الجهة الشمالية والغربية واللذين يرجعان إلى عهد الوليد بن عبد الملك، وبني بدلاً منهما رواقين آخرين بعد توسيع حدود المسجد من هاتين الجهتين، وهو ما نستنبطه من رواية الأزرقي عن أعمال أبي جعفر المنصور بالمسجد الحرام والتي أكدها عند حديثه عن زيادة المهدي، والتي ذكر فيها أنا أبا جعفر أمير المؤمنين كان قد جعل في المسجد من الظلال طاقا واحداً( )، كما بنى المنصور مئذنة في ركن المسجد الشمالي الغربي عرفت باسم مئذنة بني سهم، وكان ذلك سنة 139هـ( )، أما عن شكل هذه المئذنة فنستطيع أن نستنبطه من وصف ابن جبير للمسجد الحرام في أواخر القرن السادس الهجري - على الرغم من اتساع الفترة الزمنية بين بناء أبي جعفر لهذه المئذنة وحتى زيارة ابن جبير لها- ولكن حجتنا في هذا أن المصادر التاريخية لم تشر إلى أية عبارة جوهرية لهذه المئذنة منذ عهد أبي جعفر المنصور وحتى زيارة ابن جبير لها، وعلى هذا الأساس فهذه المئذنة التي وصفها ابن جبير ترجع إلى عصر أبي جعفر، أما عن شكلها فهي - طبقاً لوصف ابن جبير- تنقسم إلى قسمين: القسم السفلي مركن (أي له أركان - أي مكعب)، أما القسم العلوي فهو أسطواني، يعلوه فحل( ) المئذنة المستدير( ).
عمارة المهدي للمسجد الحرام:
عمر الخليفة المهدي المسجد الحرام، وزاد في مساحته، وقد تمت هذه العمارة على مرحلتين: الأولى سنة 160هـ، والثانية سنة 164هـ، أما عن العمارة الأولى فيذكر الأزرقي أن المهدي أمير المؤمنين حج في سنة ستين ومائة، فجرد الكعبة مما كان عليها من الثياب، وأمر بعمارة المسجد الحرام، وأمر أن يزاد في أعلاه ويشترى ما كان في ذلك الموضع من الدور، وأمر بأساطين الرخام فنقلت في السفن من الشام حتى أنزلت بجدة، ثم جرت على العجل من جدة إلى مكة، وجعل في أعلى المسجد ثلاثة صفوف من الأساطين، وجعل بين يدي الطاق الأول( ) - الذي بناه أبو جعفر مما يلي دار الندوة - صفين، حتى صارت ثلاثة صفوف( ).
وأما عمارة المهدي الثانية فكانت سنة 164هـ، ويذكر الأزرقي بشأنها أن المهدي لما زاد المسجد الزيادة الأولى اتسع أعلاه وأسفله وشقه الذي يلي دار الندوة (الشامي)، وضاق شقه اليماني( ) الذي يلي الوادي والصفا، فكانت الكعبة في شق المسجد، فلما حج المهدي سنة 164هـ ساءه ذلك، وأمر بتوسعة المسجد الحرام حتى تصبح الكعبة في وسطه تماماً، واستمرت هذه العمارة حتى وفاة المهدي سنة 169هـ وبداية عهد ابنه الهادي( )، أما عن تخطيط المسجد بعد زيادة المهدي فالواقع أن الأزرقي على الرغم من طول حديثه عن عمارة المهدي لم يذكر لنا عدد الأروقة الموجودة بكل جهة من جهات المسجد الحرام بعد عمارة المهدي له، لكننا نستطيع أن نستنبط شكل وتخطيط المسجد الحرام بعد زيادة المهدي من خلال ما كتبه المؤرخ الرحالة ابن عبد ربه الأندلسي المتوفى سنة 328هـ والذي قدم لنا وصفاً دقيقاً لتخطيط المسجد الحرام في بداية القرن الرابع الهجري، خاصة إذا علمنا أن تخطيط المسجد الحرام لم يطرأ عليه أي تغير منذ عمارة المهدي له وحتى زيادة ابن عبد ربه ووصفه له، باستثناء إضافة دار الندوة في الجهة الشمالية في عهد المعتضد سنة 279هـ، وبحذف هذه الزيادة من تخطيط المسجد الحرام كما وصفه ابن عبد ربه نحصل على تخطيط المسجد الحرام في عصر الخليفة المهدي، وعلى هذا الأساس يكون تخطيط المسجد الحرام في نظر المهدي - طبقاً لرواية ابن عبد ربه - كما يلي: صحنه كبير واسع ذرعه طولا من باب بني جمح( )، إلى باب بني هاشم( ) الذي يقابل دار العباس بن عبد المطلب أربعمائة ذراع وأربعة أذرع، وذرعه عرضاً من باب الصفا( ) إلى دار الندوة( ) ثلاثمائة ذراع وأربعة أذرع( )، وله ثلاث بلاطات (البلاطة هي المساحة المحصورة بين صفين من الأعمدة) محدقة به من جهاته كلها منتظم بعضها ببعض وهي داخلة في الذرع الذي ذكرت، فوقها سماوات( ) مذهبة وحافاتها على عمد رخام بيض، عددها في طوله من الشرق إلى الغرب مع وجه الصحن خمسون عموداً، وفي عرضه ثلاثون عموداً، وجملة عمد المسجد أربعمائة وأربعة وثلاثون عموداً، وللمسجد ثلاثة وعشرون باباً لا غلق عليها يصعد إليها بعدد من الدرج( ).
ذكر الأزرقي أن للمسجد الحرام أربعة وعشرين باباً، فيها ثلاثة وأربعون طاقاً (فتحة)، منها في الشق الذي يلي المسعى وهو الشرقي خمسة أبواب بها أحد عشر طاقاً: هي:
الباب الأول: وهو الباب الكبير الذي يقال له باب بني شيبة، وهو من ثلاثة (طيقان) تستند على اسطوانتين (عموديتين).
الباب الثاني: من طاق واحد طوله عشرة أذرع وعرضه سبعة أذرع، ويعرف باسم باب القوارير، لأنه فتح في موضع دار القوارير.
الباب الثالث: من طاق واحد، طوله عشرة أذرع، وعرضه سبعة أذرع، وهو باب النبي صلى الله عليه وسلم.
الباب الرابع: من ثلاثة (طيقان)، ترتكز على أسطوانتين، وارتفاع طاقاته ثلاثة عشر ذراعاً، ويعرف باسم باب العباس بن عبد المطلب.
الباب الخامس: من ثلاثة طاقات، ترتكز على عموديتين، ويعرف باسم باب علي، وباب بني هاشم.
أبواب الجهة الجنوبية:
ذكر الأزرقي في هذه الجهة - التي أسماها الشق اليماني (أي الجنوبي الذي يواجه بلاد اليمن) - سبعة أبواب هي:
الباب الأولى: من طاقين يرتكزان في الوسط على اسطوانة، وارتفاعه ثلاثة عشر ذراعاً ونصف، ويعرف باسم باب بني عائد( ).
الباب الثاني: من طاقين، يرتكزان على اسطوانة، ارتفاعه أيضاً ثلاثة عشر ذراعاً ونصف، ويعرف باسم باب بني سفيان بن عبد الأسد( ).
الباب الثالث: من خمسة طاقات على أربعة أساطين، ويعرف باسم باب الصفا.
الباب الرابع: من طاقين يرتكزان على اسطوانة، ويقال له باب بني مخزوم( ).
الباب الخامس: من طاقين على اسطوانة، ويعرف أيضا باسم باب مخزوم.
الباب السادس: من طاقين على اسطوانة، ويعرف باسم باب بني تميم( ).
الباب السابع: من طاقين على اسطوانة، ويعرف باسم باب أم هاني ابنة أبي طالب( ).
أبواب الجهة الغربية:
وهذه الجهة أسماها الأزرقي شق بني جمع، وبها ستة أبواب هي:
الباب الأول: من طاقين على اسطوانة، ويعرف باسم باب بني حكيم بن خزام، وباب بني الزبير بن العوام، وباب الخزامية( ).
الباب الثاني: من ثلاثة طيقان على اسطوانتين، ويعرف باسم باب الخياطين.
الباب الثالث: من طاقين على اسطوانة، ويعرف باسم باب بني جمح.
الباب الرابع: من طاق واحد، ويعرف باسم باب أبي البختري بن هاشم الأسدي.
الباب الخامس: من طاق واحد، ويعرف باسم باب زبيدة.
الباب السادس: من طاق واحد، ويعرف باسم باب بني سهم( ).
أبواب الجهة الشمالية:
وهذه الجهة أسماها الأزرقي الشق الشامي، وبها ستة أبواب هي:
الباب الأول: وهو يلي منارة بني سهم، وهو من طاق واحد، ويعرف باسم باب عمرو بن العاص.
الباب الثاني: ويعرف باسم باب السدة، لكونه سد ثم فتح.
الباب الثالث: يعرف بباب دار العجلة.
الباب الرابع: يعرف باسم باب قعيقان، وهو من طاق واحد، كما يقال له باب حجير بن إهاب.
الباب الخامس: هو باب دار الندوة، وهو من طاق واحد.
الباب السادس: هو باب دار شيبة بن عثمان، وهو من طاق واحد.
مآذن المسجد الحرام بعد زيادة المهدي:
أصبح للمسجد الحرام بعد عمارة المهدي أربع منائر (مآذن) في أركانه الأربعة، وفيما يلي ذكرها طبقاً لرواية الأزرقي( ).
المنارة الأولى: هي التي تلي باب بني سهم( )، وهي من أعمال أبي جعفر المنصور، ويؤذن فيها صاحب الوقت بمكة.
المنارة الثانية: تلي أجياد، وتشرف على الحزورة وسوق الخياطين( )، وفيها يسحر المؤذن في شهر رمضان.
المنارة الثالثة: تشرف على دار ابن عباد، وعلى سوق الليل( )، ويقال لها منارة المكيين.
المنارة الرابعة: تطل على دار الإمارة( )
أما عن شكل هذه المآذن فنستطيع أن نستنبطه من خلال وصف ابن جبير للمجسد الحرام في أواخر القرن السادس الهجري على الرغم من اتساع الفترة الزمنية بين عمارة المهدي للمسجد الحرام سنة 164هـ.
وبين زيارة ابن جبير للمسجد الحرام في أواخر القرن 6هـ - 12م، ولكن حجتنا في ذلك أن المصادر التاريخية لم تشر إلى أي تجديد أو ترميم( ) لهذه المآذن من شأنه أن يغير من شكلها طيلة هذه الفترة، وعلى هذا فقد ظلت هذه المآذن بشكلها الأول الذي بناه المهدي سنة 164هـ عند زيارة ابن جبير للمسجد الحرام في أواخر القرن السادس الهجري، وعلى هذا الأساس فهذه المآذن - طبقاً لوصف ابن جبير والذي أسماها الصوامع - تنقسم إلى قمسين: السفلي مربع الشكل، والقسم العلوي اسطواني يعلوه فحل الصومعة، وهو مستدير الشكل، ويحيط بالجزء المربع وكذا بالجزء الأسطواني شباك من خشب فريد الصنعة( ).
المسجد الحرام بعد عصر المهدي حتى نهاية الدولة العباسية:
استمر اهتمام الخلفاء العباسيين بعد عصر المهدي بالمسجد الحرام، فوسعوا مساحته، وأصلحوا ما تلف من عمارته، ومن أشهر الخلفاء الذين أجروا إصلاحات بالمسجد الحرام الخليفة المعتصم سنة 220هـ، وهارون الرشيد سنة 240هـ، وممن زادوا في مساحته الخليفة المعتضد سنة 284هـ، والخليفة المقتدر سنة 376هـ، هذا بالإضافة إلى ما قام به باقي الخلفاء من إصلاحات بسيطة وكسوة الكعبة، وفيما يلي تفصيل لهذه الترميمات والزيادات.
وفي عهد الخليفة المعتضد سنة 284هـ، تم إضافة دار الندوة( ) الموجودة بالشق الشامي (الشمالي) إلى المسجد الحرام، ويذكر لنا الأزرقي سبب إضافة دار الندوة إلى المسجد الحرام، فيذكر أن دار الندوة كانت قبل إضافتها للمسجد الحرام خرابة يلقى فيها القمامة وينزلها عبيد العمال بمكة، ويضعون فيها دوابهم، فعظم ذلك على بعض أهل الخير، فبعثوا إلى الوزير عبد الله بن سليمان بن وهب وزير الخليفة المعتضد يذكرون له كيف أن دار الندوة عظم خرابها وتهدمت وكثر ما يلقى فيها من القمامة، حتى صارت ضرراً على المسجد الحرام، وحببوا إليه إضافتها إلى المسجد الحرام حتى ينال الثواب من الله، وكتبوا إليه أن زيادة المسجد الحرام مكرمة لم تتهيأ لأحد بعد الخليفة المهدي، ويذكر الأزرقى أنه لما بلغ المعتضد ذلك عظمت رغبته في إضافتها إلى المسجد الحرام، وأخرج لذلك مالاً كثيراً، فأخرجت القمامة منها، وجعلت مسجداً وصل بالمسجد الكثير( ).
أما عن شكل هذه الزيادة فيذكر الأرزقي أن ذرع (أطوال) هذه الزيادة طولاً أربعة وستون ذراعاً من الشمال إلى الجنوب، وذرع هذه الزيادة عرضاً من الشرق إلى الغرب سبعون ذراعاً، ويفهم من كلام الأزرقي أن هذه الزيادة كانت أشبه بمسجد صغير من فناء أوسط تحيط به الأروقة من جهاته الأربع، وأنها كانت متصلة بالمسجد الكبير، عن طريق اثني عشر باباً، كما جعل لهذه الزيادة منارة( )، أما عن شكل هذه المئذنة فيذكر النابلسي أنها كانت عند إنشائها في عهد المعتضد من طابقين( )، غير أنه لم يذكر شكل هذين الطابقين، وأنه من المرجح أنها كانت تشبه مآذن المهدي، أي أنها كانت من طابقين: السفلى مكعب، والعلوي أسطواني، وهو الوصف الذي وصفه ابن جبير( ) لهذه المئذنة في أواخر القرن السادس الهجري، حيث إن هذه المئذنة لم يطرأ عليها أي تعديل( ) منذ إنشاء المعتضد لها وحتى زيارة ابن جبير للمسجد الحرام.
وبذكر الأزر