بوابة الحرمين الشريفين

قالو عن الحرمين
مكة ورحلة الحج في فكر المسلم المثقف

أولاً : مكة وجزيرة العرب في فكر الشيخ عبد العزيز الثعالبي (1876- 1944)
محمد بو هلال
المقدمة:
الشيخ عبد العزيز الثعالبي المولود سنة 1876 والمتوفي سنة 1944، هو أحد كبار علماء تونس المعاصرين ومن أبرز زعمائها السياسيين. جاهد في صفوف الحركة الوطنية التونسية منذ نعومة أظفاره، وانحاز إلى قضايا الأمة العربية في كل مكان، وسخر كل طاقته في سبيل الإسلام وأمته مدافعاً عن مصالحها داعياً إلى وحدة شعوبها مشعراً أبنائها بواجباتهم الحضارية العظمة ضارباً لهم المثل في الجهاد والتفاني والتضحية.
إنه ذو شخصية ثرية متعددة الخصال والاهتمامات، وقد رأينا أن نركز جهدنا على ثلاثة أبعاد في حياته: البعد الوطني والبعد القومي والبعد الإسلامي، ونتابع هذه الأبعاد حتى نصل إلى ما تلتقي عنده وتتوحد بفضله فكرة مكة الوطن العام لجميع المسلمين.
الثعالبي الزعيم الوطني:
إن الظروف التاريخية التي عرفتها تونس في حياة الثعالبي (1876-1944م) هي التي فرضت عليه أن يكون زعيماً وطنياً، تتميز هذه الظروف بثلاث خصائص:
- خضوع البلاد التونسية باسم الحماية الاقتصادية المكذوبة للاستعمار الفرنسي منذ سنة 1881.
- - تفشي صنوف الأمراض الاجتماعية والفكرية واستفحال مظاهر التأخر الحضاري فيها.
- تجذر الفكرة الإصلاحية بتونس بفضل جهود بعض الساسة والزعماء والعلماء المجددين في حقول الفكر والاجتماع والسياسة منذ القرن التاسع عشر، أمثال خير الدين باشا وعلي باش حانبة.
وقد عرف النشاط الوطني للثعالبي عدة أشكال تتناسب مع مراحل حياته وتقلب ظروف البلاد التونسية، يمكن ردها إلى الأنشطة الثلاثة التالية:
أ- الأنشطة الشبابية
منذ سنة 1896 أصدر الثعالبي جريدة تخصه سماها (سبيل الرشاد) وجعلها منبراً لنشر الأفكار الإصلاحية في المجالات الدينية والاجتماعية والتعليمية. لكن السلطات الاستعمارية عطلتها بعد سنة واحدة من صدورها، فاضطر الثعالبي للهجرة إلى ليبيا أولاً، ثم قصد مصر حيث التقى بالشيخ محمد عبده وبغيره من رجال الإصلاح المصريين. وفي سنة 1902 انتقل إلى الجزائر، ومنها إلى المغرب الأقصى ومكث هناك حتى سنة 1904. وفي هذه السنة عاد إلى تونس متشبعاً بالأفكار الإصلاحية مطلعا اطلاعاً واسعاً على أوضاع البلاد العربية ومشاكلها.
عن طريق البر ومنها إلى بومباي (هند) حيث يركب باخرة إلى جدة.
وفي 2 في ديسمبر سنة أم منحت روسيا ثلاثين جواز سفر لحجاج قازاقستان. وفي عام 1863م صدر قانون جديد جاء فيه تحديد عمر الحاج ومن أي مدينة هو وهل هو غني أم فقير ولم يسمح القانون الجديد بالسفر للحج إلا الأغنياء فقط والوجه الآخر من هذا القانون هو منع حجاج وسط آسيا وخاصة قازاقنستان من الذهاب للحج باعتبار أن غالبية الشعب من الفقراء.
وفي عام 1874م خرج حجاج من مدينة (سيمي) والقري المجاور لها للحصول على وثيقة للذهاب للحج ولكن لم تمنح الحكومة الروسية وثائق لسفر إلا لحاج واحد هم كونا نباي والد الشاعر القازاقي الشهير آباى، وسافر كوننباي سكن طريق مدينة (شيلابن) مستقلاً قطاراً إلى أن وصل البحر الأسود حيث ركب باخرة إلى بيروت ومنها إلى دمشق وعمان ثم المدينة المنورة ومكة المكرمة وسافر في أرض عربية ثلاثة عشر يوماً وقد وصف الطريق بدقة.
وفي سنة 1876م خرج كل من (جهانجير) و(جوبان خات) للحج واصطحبا معهما أربعة عشر حصاناً وعشرة جمال وخيمة وقررا السفر إلى مكة المكرمة ووصلا إليها بعد سنة أشهر وفي سنة 1886م خرج ثلاثون حاجاً من مدينة (آقمولا) في شمال شرق قازاقستان وحصلوا جميعاً على وثائق للسفر للحج من قبل الدولة. وبعدها سافر (سلامات واسكينوف) من مدينة (سيمي) وعبد الحميد عبد الرشيد من مدينة (فيرني) آلماطي الحالية، ومحمد شاه قراقوجن ونارن، وآيت قول بيسنيايف من (أكتاو) شرق قازاقستان، ويوجد حجاج قازاق كنيرون سافروا في هذا العام للحج مع قليل من حجاج أوزبكستان وقيرغيزستان.
وقد واجه حجاج قازاقستان مشكلات كثيرة في الطريق الصعب والطويل ومرض منهم الكثير أثتاء السفر. ففي سنة 1881م مرض كثير من الحجاج القازاق في إيران، وفي سنة 1896م مرض كثير منهم في الهند ثم هجروا هذا الطريق وذهبوا إلى روسيا بعد أن تخلف الكثير بسبب أخطار السفر ثم قلل الروس أعداد حجاج قازاقستان إلى عشرون فقط وهذا لا يتناسب مع عدد سكان قازاقستان الذين كانوا يتوقون للسفر إلي الحج.
وفي يوم 31 ديسمبر 1900م صدر قرار من وزارة الداخلية الروسية برقم 2414 بإنشاء شركة السفن الروسية ووكالة السكك الحديد لنقل الحجاج من داخل المدن القازاقية المترامية الأطراف سكن طريق السكك الحديد إلى روسيا ومنها إلى جدة بالسفن وقاموا بتقديم جدول بمواعيد الذهاب والإياب للسفن والقطارات. وكان عدد الحجاج القازاق يتزايد كل عام حتى وصل إلى ثلاثة آلاف حاج في العام مما دعا الحكومة الروسية إلى إنشاء خطوط للسكك الحديدية لنقلهم في موسم الحج الذي بدا يتزامن مع موسم الشتاء القارص.
وفي سنة 1905 سافرت أعداد كبيرة من الحجاج القازاق إلى مكة المكرمة من مدن: بوليه واستراخان، واورال، وتورغاي، وسرداريا وتركستان وأعلنت (الشركة الروسية للسفن والبخاره) أنها أعدت ثلاثة سفن للحجاج في موسم الحج وهي (أيقوفرات) و(أوديسه) و(تساريتسا) أي الملكة على أن تبحر جميع هذه السفن من ميناء (سيفوستبول) حيث تبحر السفينة (أيفوفرات) في يوم 8 أو 10 نوفمبر وتصل إلى اسطانبول بعد ستة عشرة يوماً ثم تعبر قناة السويس إلى جدة. وعلى الحجاج الذين يرغبون في زيارة المدينة قبل مكة أن يركبوا السفينتين (أيفوفرات) و(أوديسة) وقد أعدت إدارة هذه السفن مكاناً للوضوء وزودته بالماء الساخن وكانت الرعاية الصحية تقدم للحجاج مجاناً.
يقول أحد الحجاج القازاق ناصحاً مواطنيه الذين يريدون الذهب للحج: (من الأفضل للحاج أن يشتري تذكرة الذهاب والإياب معاً لأن شراء التذاكر من جدة يكون صعباً وغالياً. وثمن التذكرة من سيفوستبول) إلى جدة ذهاباً وإياباً في الدرجة الأولى 250 روبل، وفى الدرجة الثانية 200 روبل، وفى الدرجة الثالثة 100 روبل وعلى شاطئ مدينة سيفوستبول توجد استراحات خاصة بالحجاج تسمى (حاج خانة) حيث تستقبل الحجاج القادمين بالقطار في انتظار السفر بالباخرة. وكل استراحة منها تتكون من ثلاثة طوابق، طابقان للسكن وطابق للصلاة وبها مطعم ومكتب للبريد، ويوجد في كل (حاج خانه) موظفون مختصون في إعداد وترتيب الوثائق الخاصة بسفر الحجاج.
وللتيسير على الحجاج في شراء التذاكر أعدت الحكومة مكاتب خاصة بذلك في محطات القطار في مدن: تيومان، واومبي، وبتري باول، وتوم، وموسكو، وريازان وقازان نوفوجراد، وتامبوف، سمرة، وسيبيريا، وبينزه وبيرم، واورنبور، وطشقند وانديجان، وسط آسيا والقوقاز، وتم ترتيب الأمور الخاصة بالحجاج وراعت الدولة الناحية الصحية للحجاج وعينت طبيباً في كل سفينة.
وكان الحجاج قد بدءوا يحصلون على جوازات سفر لهم في عهد بطرس الأول ولكنها كانت غالية الثمن وصعب الحصول عليها، فقد كان الحجاج الذين ينوون السفر للحج يأتون إلى العاصمة من أماكن بعيدة وكانوا ينتظرون أياماً لحصلوا على جواز السفر وكثير منهم رجع إلى مدينته دون أن يحصل على جواز السفر فاضطر الكثيرون للسفر إلى الحج بدون جوازات سفر. ثم تنبهت الدولة الروسية لذلك وقدمت للحجاج تأشيرة للخروج للحج لمدة ستة أشهر بينما قدمت تأشيرة بسنة أو سنتين لمن يريد الذهاب إلى أوربا وآسيا للتجارة.
وبسبب عدم وجود آلة تصوير في كل قرية أو مدينة كتبت بيانات الحاج على الجانب الآخر من جواز السفر وهى: لون عينيه وشعره ولحيته، ووجهه وأنفه ومقاس فمه وأسنانه وتترجم هذه البيانات إلى اللغات الروسية والانجليزية والفرنسية والألمانية ونتيجة لتزايد عدد حجاج قازاقستان ووسط آسيا أمر ملك الروس بتشكيل لجنة لدراسة ظاهرة الحج لدى مسلمي وسط آسيا وقدمت هذه اللجنة تقريرها بعد أربع سنوات ومما جاء في التقرير: (يقول المسلمون أن السفر للحج فرض عليهم أمر به القرآن الكريم، وهذا السفر فرض لمن استطاع إليه سبيلا، وعلى كل حاج أن يترك لأسرته النقود الكافية لنفقاتهم بعد سفره ويشترط أن يكون الحاج غنياً وبصحة جيدة ليتحمل مشاق السفر، وأن الحجاج ذاهبون إلى مكة المكرمة لينالوا ما وعدهم الله به في الآخرة) وفقاً لهذا التقرير بدأ الروس يطلبون من الحجاج القازاق تقديم حجة بما لديهم من أموال ومواش لكي يسمحوا لهم بالسفر إلى الحج وفيما يلي نماذج من هذه الحجج:
1- تاتيم فوجين من ولاية أقمولا عمره 73 عاماً، ولديه 15 فرسا، وعشرة أبقار، و15من الأغنام.
2- فوجان بولانوف من ولاية أومبي، وعمره 48 عاماً ويملك 470 فرسا، وعشرون بقرة، و25 من الأغنام.
3- قوزباي كينجين من ولاية فيرني، وعمره 43 عاماً، وعنده 50 فرساً، و60 بقرة و40 من الأغنام.
4 - عبد الباقي تيلاكين من ولاية سيمي، عمره 50 عاماً بحوزته 60 فرساً، و30 بقرة و200 من الأغنام.
وفى رأينا أن مطالبة الحكومة الروسية الحجاج القازاق بتقديم هذه الحجج كان الهدف منها منعهم من السفر إلى مكة المكرمة حتى لا يتأثروا بالصحوة الدينية من خلال مخالطتهم للشعوب الإسلامية الأخرى في الحج. كما منعت الحكومة الروسية الحجاج القازاق من دخول تركيا لنفس السبب. ومن خلال قراءئنا لبعض الحجج نعرف أن الروس لم يساووا بين الأجناس المختلفة في الحقوق. فعلى سبيل المثال طلب عدد من المسلمين من ولاية تورغاي وهم: عطاء الله تاسيباكوف، وقوداى بيرجان، وباسيبة كوف، وقاسم كوشكينتايف أن يسافروا إلى مكة المكرمة عن طريق البحر الأسود في 14 مايو 1888م ولكن الحاكم الروسي للولاية رفض السماح لهم بالسفر وفى نفس الوقت وافق على سفر روسيان في نفس اليوم إلى القدس وهما نيكولايف من ولاية قوستاناي وكوزما أوروفيسكي من ولاية (واز) لزيارة الأماكن المسيحية المقدسة وهناك قصص كثيرة لحجاج قازاق خرجوا للحج ولكنهم توقفوا في إسطانبول أوجاوروا في مكة المكرمة والمدينة المنورة سنوات طويلة تعلموا فيها اللغة العربية والعلوم الإسلامية ونالوا الإجازات العلمية من الحرمين الشريفين ثم عادوا إلى قازاقستان وفتحوا مدارس لتعليم الأطفال اللغة العربية وتحفيظهم القرآن الكريم. ونذكر من هؤلاء الحاج عبد الرحمن بن سيفيريندى الذي كان ينحدر من أسرة قازاقية ثرية بذل الجهد في طلب العلم واستقل الباخرة إلى مكة المكرمة ولكنه لم يتمكن من الوصول إلى مكة المكرمة فمكث في إسطانبول حيث تعلم اللغة التركية وأتقنها وعمل في مجال الطباعة لمدة ثلاثة سنوات بعدها توجه إلى المدينة المنورة وهناك تعلم اللغتين العربية والإنجليزية ثم عمل في التدريس في إحدى مدارس مكة المكرمة وعلم العديد من أطفال الرب لمدة ثلاثة سنوات ومكث في مكة المكرمة ثلاث عشرة سنة ثم عاد إلى فازاقستان مع الحجاج القازاق وأصبح إماماً في مدينة (زايستان) التي تقع في شرق قازاقستان وبعد فترة من الوقت وشى به لدى الحكومة الروسية فقرر الهجرة إلى الصين مع أسرته 1935م وهناك انكب على ترجمة القرآن الكريم من اللغة التركية إلى اللغة القازافية في سنة 1937م وانتهى من الترجمة بعد ثماني سنوات وتقع الترجمة في أربعة أجزاء.
كان الحاج عبد الرحمن عالماً متعمقاً في الدراسات الدينية في عهده كما كان عالماً بجغرافية العالم وتاريخه خاصة تاريخ العرب والأتراك وتحدث مع أهل قازاقستان عن تجربته الإيمانية في الحج وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة وذكر معلومات مهمة عن عرفه والمناسك.
وخرج الحاج شوكت من زايستان للحج أيضاً وعمره 70 سنة واصطحب معه شاباً اسمة قازاقباى عمره 18 سنة وكان يعرف اللغة العربية وقد مات شوكت في مكة ودفن بها.
وفى سنة 1903م توجه القارئ (تولى جان) إلى مكة المكرمة للحج وحصل على إجازة في قراءة القرآن الكريم في العالم الإسلامي مع ثلاثمائة قارئ من جميع أنحاء العالم الإسلامي تعلم هناك اللغة العربية وأصول التجويد وعندما عاد إلى بلدة (قاشقاريا) في شرق قازاقستان وتقع الآن في الصين -أطلق عليه الناس لقب (بلبل القراء) لجمال صوته الذي كان يشبه صوت البلبل.
وفي سنة 1909م سافر إلى مكة المكرمة عدد من حجاج مدينة زايستان وهم: أقيس، وأقباي، ووانباي وعندما عادوا التقوا بتولي جان في مدينة (سيمى) ودعوه للانتقال معهم فعمل في مدينة زايستان حتى سنة 1931م وعندما اشتدت الهجمة الروسية على الذين هاجر إلى الصين واستقر في مدينة (دوربولجين) وعينه القارئ تولى جان إماما في مسجد مدينة دوربولجين وظل يدعوا الناس إلى المبادئ الإسلامية السمحة وإلى الإيمان والاتحاد حتى مات سنة 1936م في الصين.
وفي سنة 1911 سافر الحاج قونور بن الحاج مجيد إلى مكة المكرمة للحج وكان معروفاً بالعلم والتقوى ومدافعاً سكن وطنه قازاقستان ضد الروس المستعمرين وكان أبوه الحاج مجيد قد مات ودفن في مكة المكرمة أثناء الحج.
وفي سنة 1912م سافر الحاج قوربان إلى مكة المكرمة للحج قبل الحكم الشيوعى من منطقة زايستان والتقى في مكة المكرمة بالحاج عبد الرحمن بن سيفريندى الذي كان يدرس في مكة آنذاك وقد مكث عدة سنوات في مكة المكرمة للدراسة وبعد أن تعلم اللغة العربية وأتقنها عاد إلى وطنه مع الحجاج الذين جاءوا من قازاقستان وقد كنت عنه وعن نسبه العالم المؤرخ قوربان علي في كتابه (التواريخ الخمسة) ثم سافر الحاج بوتاباي إلى مكة المكرمة للحج بعد أن أعد نفسه جيداً لهذا السفر وودع أهله وقد مات في مكة أثناء الصلاة ودفنه صديقاه بورومبه واوشاقباي في مكة المكرمة.
وأرسل ساتيبالدى ابنه بيجالى إلى قازان في روسيا لدراسة العلوم الإسلامية فدرس هناك أربع سنوات وسافر للحج مع الحجاج القازاق وحج معهم وظل في مكة المكرمة مجاورا تعلم اللغة العربية والعلوم الإسلامية لعدة سنوات ثم عاد إلى وطنه في قازاقستان وفتح مدرسة لتعليم الأطفال اللغة العربية والدين الإسلامي وقد جاء لزيارته شيخ عربي من مكة على جمل بسنام واحد ومكث عنده عاماً كاملاً ثم عاد إلى مكة، وبعد سنتين ركب الحاج بيجالى جملاً بسنامين وسافر إلى مكة المكرمة بعد أن أوصى أخاه بيك محمد بأن يحل محله في التدريس للأطفال في مدرسته لأنه لن يعود إلى وطنه مرة أخرى.

 

 

 


ثانياً : مكة عند المثقف التونسي في القرن الثالث عشر الهجري: السنوسي نموذجاً
عبد الحق الزموري
تونس
تبحث هذه الورقة في الحضور الذي تتمتع به مكة كعاصمة ثقافية دينية في فكر المثقف التونسي في القرن الثالث عشر هجرية الموافق للتاسع عشر ميلادية، وذلك من خلال أبرز مؤلفات الشيخ محمد بن عثمان السنوسي التونسي (1267م/ 1851م - 1318هـ/1900م) (مسامرات الظريف بحسن التعريف) و(الرحلة الحجازية).
ولد الشيخ السنوسي في تونس في عائلة علم عريقة حيث كان جده قاضي الجماعة المالكي بتونس الحاضرة وتولى أبوه القضاء المالكي بضاحية سيدي بوسعيد. أما هو فقد تتلمذ على كبار مشايخ عصره كالشيخ محمود قابادو والشيخ محمد بيرم الخامس والشيخ محمد الطاهر النيفر والشيخ سالم بوحاجب وغيرهم وتصدى للتدريس بجامع الزيتونة وذاع صيته، وعينه أستاذه الشيخ محمد بيرم الخامس كاتباً أول لمجلس جمعية الأوقاف في محرم سنة 1291/ مارس 1874 ومحرراً لجريدة الرائد التونسي في 1293/ 1876 قبل أن ينفصل عنهما عند انتصاب الحماية الفرنسية على تونس سنة 1298هـ/1881م. ولما عزم على الهجرة منع فالتمس الخروج لأداء فريضة الحج فأجيب. وسافر في رجب 1299هـ/ماي 1882م فزار إيطاليا والأستانة قبل أن يصل الحجاز. وفي طريق عودته نزل الشام قبل أن يعود إلى تونس ليواصل نشاطه متصدياً لتدريس العلم، منسقاً ومترئساً المظاهرة الاحتجاجية الكبرى ضد النظام البلدي التي ضمت 3000 من أعيان الحاضرة وعلمائها (جمادي الثانية 1302هـ/أبريل 1885م) ووصلها بجمعية العروة الوثقى مما دفع القوات الفرنسية لإلقاء القبض عليه ونفيه إلى مدينة قابس.
وقد اجتهد السنوسي -وخاصة في رحلته الحجازية- في الحصول على إجازة كبار علماء عصره في العلوم النقلية والعقلية وأسهب لنا في الجزء الثالث من (الرحلة) في ذكر إجازاته وأسانيدها الكثيرة مما يدل على متانة علمه. كما تخبرنا تآليفه الكثيرة سعة ثقافته وكبير إلمامه بعصره واعتنائه بخصائص التمدن الغربي مما جعله يحسب على أصحاب النزعة التجديدية مع تعلق واضح أهداب السنة.
مقدمة:
كانت مكة والمدينة المنورة تمثلان منذ ظهور الإسلام، زيادة على الاعتبار الديني القدسي الذي تتمتعان به عند المسلمين باعتبارهما ركناً من أركان الدين، مركزاً ثقافياً عالمياً ينعقد كل سنة، يلتقي فيه علماء من مذاهب واختصاصات مختلفة وتتدافع فيه الآراء والعلوم وتعرض فيه الآداب وتعطى فيه الإجازات العلمية (وهي عبارة عن شهادات تعترف لأصحابها بامتلاك ناصية فرع من فروع العلم)، وتصبح مكة بذلك أهم مركز ثقافي عالمي على الإطلاق رغم ما تخللها من فترات ضعف نتيجة أوضاع سياسية مرت بها الأمة الإسلامية في تاريخ تطورها الطويل.
وكان علماء ذلك العصر من مختلف الحواضر الإسلامية يعتبرون الإجازة التي يحصلون عليها من عالم مكي أو مدني مولداً أو جواراً أرقى أنواع الإجازات وأعظمها في عيون العامة والخاصة. ولكن ذلك لم يمنع مراكز إسلامية أخرى كالأزهر بمصر والزيتونة بتونس والقرويين بفاس المغرب من احتلال مكانة مرموقة يشد إليها الرحال للتحصيل والإجازة.
مكة: الحاضرة العلمية في كتاب (الرحلة):
خصص الشيخ السنوس ما لا يقل عن 100 صفحة من كتاب لوصف الحجاز. ومنذ البداية يقرر هدفه قائلاً (وللحج فرائض ومسنونات ومندوبات وفضائل مدونة في جميع كتب الفقه وأفردت لها كتاب المناسك لا غرض لنا في الكلام على شيء منها وإنما تقتصر على موضوعات السفر) وهو بذلك يؤكد تركه الفوائد الدينية للحج جانباً وذلك لتبحر غيره فيها، ويركز على أغراض أخرى للرحلة، يتحدث عن أهمها في تصديره للجزء الثالث من كتابه والخاص بالتراجم، يقول: (.. أعلم أنه ينبغي للمسافر أن يكون بالمرصاد من الرجال الذين لا يمكن له الاجتماع معهم بغير السفر إذ كثير منهم لا يخرج من بلاده، فإذا بلغ السائح إلى أي البلاد دقق نظره في خاصته).
يختار السنوسي أن يكون تركيزه في رحلته تلك على الالتقاء بعلماء المسلمين ورجالاتهم والانتفاع بمعارفهم وتبادل خبراتهم، ويعتبر ذلك عز الطلب وذروة الفوز. نفهم ذلك من تتبع حديثه عن الذين فصل في اجتماعه بهم ومحاولة رسم الدور الذي لعبوه في تنمية شخصيته العلمية.
يبدأ المؤلف عند وصوله الحجاز بوصف جدة وهي المحطة الأولى، فيؤرخ لها ويصف عمرانها ونشاطها الرئيسي وعدد سكانها وبعض أخلاقهم. ولأنها (الطريق الوحيد إلى آسيا من أوروبا أو أفريقيا) فقد كنت تجد فيها كثيراً من السلع الأوروبية والآسيوية، وفيها (كثير من التجار الهنود والمصريين) ولعل ذلك هو السبب الذي جعلها تحتوي على ديار قناصل الدول الأجنبية.
ثم يصل إلى مكة المكرمة فيتكلم عن موقعها وعن معاني تسميتها، يقول: (هذه أم القرى ومهبط الوحي ومحل وجود خير الوجود ومظهر الشريعة الإسلامية وبها كعبة العرب وموضع اجتماع حكومتهم العظمى ومقر أشرافهم)
ويتعرض إلى الفروق الفقهية والمذهبية بين القائلين بفتحها عنوة أم صلحاً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما لذلك من تبعات على بيع أرضها والمجاورة بها، قبل أن يلخص تاريخ بناء الكعبة وتعظيم العرب لها منذ ما قبل الإسلام.
وفي بداية حديثه عن مكة يحاول أن يضعنا في الصورة فيرسم لنا لوحة مجملة عن حاضرة علمية مزدهرة يقول: (ووجدت الحرم المكي فيه كثير من العلماء يقرئ الدروس من الفقه والتوحيد والنحو. ومن المبتدئين من يقرئ مناسك الحج، ووجدت مفتي مكة يومئذ... الشيخ أحمد دحلان يقرئ تفسير البيضاوي بعد صلاة الصبح ويحضر درسه كبار العلماء، بحيث أنهم بعد انفصالهم من درسه يتفرقون في جهات الحرم للتدريس بها فتخرج من بحر درسه تلك الجداول التي تستمر بقية اليوم)
ويعلما أنه جلس (السنوسي) في المقام المالكي بالمسجد الحرام يقرأ كتاب (الشفا) للقاضي عياض. وكان قد التقى أمير مكة الشريف عبد الله بن عون يوم توليه حيث اختصه بمجلس الخاص ومدحه السنوسي في قصيدة طويلة وكانت له معه مواصلة في العلم والأدب وقد خرج هذا الأمير لوداعه عند ظاهر مكة وأوصى به خيراً لما عزم على زيارة المدينة. كما التقى الشيخ (حسن وفا) الذي طلب منه (انتقاد) قصيدته في مدح الشريف الأمير المذكور، والتقى الشيخ علي الوتري المحدث ونزل داره مدة إقامته هناك وقد كانت له به علاقة موصولة وألفة مستمر بالمراسلة منذ زيارته الأولى للحاضرة تونس سنة 1286هـ/1869م وزيارته الثانية لها سنة 1296هـ/1879م. وعند إتمام المناسك بالمدينة اجتمع (بأفاضل العلماء) ولازم (المجاورة بقدر الاستطاعة) وقضى ما له من وقت وجيز في أخذ (الهداية الحكيمة) عن الشيخ حبيب الرحمن الهندي.
ولم يفته إخبارنا عن بعض أبناء ابلدة استقروا في الحجاز واختاروا المجاورة كـ (كبير المطوفين التونسيين السيد على الكافي) وقد سعى إلى زيارته في بيته بمكة مباشرة بعد طواف القدوم وكان في سن الهرم، والشيخ محمد بن خليفة أحد مدرسي الحرم الشريف (قرأ أولاً بتونس ثم جاور بالمدينة) وقد ونسه مدة إقامته، والشيخ أحمد المشاط، وهو (شيخ فاضل واسع التجارة حسن الإدارة مشارك في الآداب والسياسة) كان على علاقة قديمة بالشيخ محمد بيرم الخامس الذي أرسل له مع المؤلف رسالة أوصاه به فيها خيراً . وفي هذه الإشارة الأخيرة دليل على أن الكاتب قد رتب جيداً للوصل إلى الأهداف المرسومة لرحلته، وهو تقليد يعتمده العلماء في أسفارهم يسهل لهم لقاء أمثالهم. وهذا السنوسي يخبرنا عن الشيخ لطف الله الأعجمي لما قدم إلى تونس نزل بمدرسة حوانيت عاشور وحين علم أن شيخها هو العالم الشيخ عبد الله السنوسي (أخرج تقييداً من جيبه فنظره ثم قال: إن هذا الشيخ قد أمرنا بزيارته. وعند ذلك طلب الاجتماع به فجلس بين يديه جلوس التلميذ) والسنوسي نفسه استصحب (كتاباً من الشيخ محمد بيرم) للأمير عبد القادر الجزائري بدمشق الشام (ليكون سبباً في التعرف بيننا).
وكانت له في ذلك الحج صحبة مع إبراهيم رأفت أفندي قاضي المدينة المنورة الأسبق، وقائمقام النجف الأشرف علي ياود كنانة بن عبد القادر زاده الكركوكي اللذان خرجا إلى بئر عثمان ليلة سفر المؤلف لمشايعته. كما اجتمع بالشيخ صالح الأصم العالم الجركسي، وبالشيخ صالح الأربيلي والشيخ محمد مهدي قاضي تبريز وكانت له معهم مطارحات فقهية وعلمية ضمنها (الرحلة).
وأتحفنا المؤلف بوصف عدد من المجالس الأدبية والعلمية والمناظرة الفقهية التي حضرها وكان طرفاً فيها أو كان مرتباً لها. ومنها جمع الأمير عبد الله بن عون شريف مكة أدباء مجلسه لينظروا في القصائد الفائقة التي قيلت في مدحه ويجعلوا لها (مراتب على عادة اعتناء عرب الحجاز لمقام الشعر) ، أو محاورات المؤلف مع علماء الشيعة في مواضيع تخص المذهب، ومباحثاته العديدة مع الشيخ رحمه الله في مسائل التلغراف الذي سأله الشيخ عن موقف علماء تونس منه ومواضع تأليفه أو حضوره مسامرات الشيخ برادة المغربي التي يقيمها في بيته ومنها الضيافة التي حضرها عدة من خواص الوافدين كـ (مولاي إدريس بن عبد الهادي الفاسي وعصمت أفندي قاضي المدينة وإبراهيم رأفت قاضيها السابق وبعض علماء نجد وغيرهم من علماء المدينة رضي الله عنهم أجمعين) وغيرها من المجالس التي شارك فيها.
وكان في هذا الجزء من وصف رحلته، لا يفتأ يشير إلى القيمة العلمية التي تحتلها المدينة ويعظم مجاورة العلماء لها ويشيد بخزائن الكتب المهمة الموجودة بها والموضوعة على ذمة العموم.
وتظهر الصورة العلمية للحرمين الشريفين في ذلك الزمان أكثر جلاء وبهاء في جزء التراجم من كتاب (الرحلة) وفي كتاب (مسامرات الظريف بحسن التعريف) الذي ترجم فيه للقضاة والمفتين وأئمة جامع الزيتونة الأعظم.
ونجمل رسم ملامح هذه الصورة في النقاط التالية:
• كثرة علماء مكة والمدينة وتبحرهم في مجالات العلم وفنون الأدب، يقول: (وفي علمائهم من يدرس ببعضها الكتب العالية وهذا برهان عظيم على تقلبهم في فنون العرفان)
• إجلال الحجازيين للعلم وأهله واهتمامهم بمن يقدم عليهم منهم.
• مجاورة كثير من علماء الأقطار الإسلامية للحرمين وامتزاجهم بأهلها، وأكثر هؤلاء وافدون من مصر وغيرها، وكان للشيخ رحمه الله الهندي هنالك الصيت المشهور، إلى درجة أن الشيخ أحمد دحلان يطلب منه أن يترجم إلى اللسان العربي ما يتعلق (بالمسائل الخمسة((أمهات مسائل الخلاف بين المسلمين والمسيحيين(، فعكف على كتابه (إظهار الحق) وأئمة في 1280هـ/1864م.
• تمكن الحجازيين (ويعني أهل العلم بخاصة) من اللغات. فهو يذكر (ما عليه علماء الحجاز من عنايتهم بعدة لغات أكثرها عندهم اللسان التركي الذي هو لسان الدولة العلية واللسان الفارسي لكمال امتزاجه باللسان التركي واللسان الهندي لكثرة الوافدين من الهند واللسان الحبشي ولسان أهل جاوة، وهاته الألسن زيادة على اللسان العربي الأصلي في جزيرة العرب).
• انفتاح مكة والمدينة وسعة صدور أهلها لما يطرح من مختلف أهل الملل والنحل الإسلامية، مما يجعل من الحجاز في ذلك الزمن أهم مركز للتبادل الثقافي في العالم. وهذا الشيخ رحمه الله الهندي يترأس مدرسة له سماها (الخندريسة) ومحلها في سوق الليل بمكة المكرمة يتخرج منها طلبة العلم من كل الأجناس، وهذا السنوسي يقع استدعاؤه للمشاركة في لجنة امتحان طلبة العلم إلى جانب الشيخ رحمه الله والشيخ عبد السلام الدهلوي المحدث ونقيب السادة بمكة، والشيخ محمد إسحاق الأدهمي مفتي جبلة بالشام، والشيخ خير الدين الميقاتي، وكان أحد الممتحنين الشيخ عبد الله بن حسين الدهلوي. وهذا الشيخ محمد الشنقيطي يختلف مع علماء مكة في مسائل لغوية فيناصبونه العداء ويأنفون من مجالسته، ولكنه ينزل في بيت الأمير عبد الله عون في مكة ويجاور بالمدينة.
• الاستقلال الكلي لأهل العلم عن أهل السياسة والإدارة والخطط (وقد يكون بعض هؤلاء أحياناً أصحاب علم(، يقول: (لقد عجبت كل العجب من أمر العلم في الحجاز مع وجود فحول العلماء هنالك، كلهم يقرئ العلوم الدينية والآلية احتساباً لربه وليس لواحد منهم معاش عن ذلك من أموال بيت المسلمين ولا من إدارة الأوقاف بحيث أنه لا جراية على التدريس ولا للمدرس أصلاً، مع أن صنف العلماء لا محالة مستحق من بيت مال المسلمين، وإن هذا الأمر عجيب).
وبالرغم من أن الهدف الذي سعا إليه الشيخ السنوسي من زيارته للحجاز -زيادة على أداء الفريضة- كان هو تحصيل أكبر قدر ممكن من العلوم والمعارف والإجازات في ذلك، فإنه ما فتأ يقارن وضع العلم في بلاده بما يراه، ويشير لنا بذلك أحياناً بشكل خفي أو مجمل كذكره زيارة علماء كبار للحاضرة تونس، أو إشادته بمنهج التدريس الذي يعتمده شيخ شيوخ مكة أحمد دحلان والذي التزم به بقية العلماء على اختلاف طبقاتهم، وهي طريقة (لا تبعد عن الطريقة التونسية في إلقاء المسألة أولاً ثم تطبيقها على الكتاب) ، أو نصحه الدولة الاهتمام بشأن العلماء وتوقيف جرايات لهم كما هو الحال في تونس، الخ.
هذه هي إذاً صورة العلم والعلماء في مكة والمدينة كما رسمها لنا السنوسي في الجزء الثاني من (الرحلة) بشكل مجمل ومتداخل مع أغراض أخرى لأدب الرحلة. أما الجزء الثالث من هذا الكتاب فقد خصصه للترجمة لبعض من لقيهم في فسره ذاك ومن كان له عليه فضل علمي محقق.
ورد هذا الجزء في طبعته المذكورة في نحو 400 ص، تعرض فيه لـ 25 شخصية ترجم لها، رتبها محقق الكتاب إلى أربعة أصناف:
• قسم جمع فيه صنف الرجال من أهل الطرق الصوفية (ترجمتان).
• قسم يتعلق بأصحاب النزعة التقليدية من شيوخ العلم (13 ترجمة).
• قسم خصصه إلى الأدباء المجددين في ميدان الفكر والثقافة (4 أعلام مشاهير).
• قسم أخير أفرده لرجال السياسة والحرب وقد لا يخلو بعضهم من علم وأدب (6 تراجم).
وقد صدر السنوسي ترجماته بلطيفة ضمنها فلسفته ومنهجه في التعريف برجال التفاهم وأخذ عنهم، يقول: (فإني أسأل الرجل عن قراءته وإقرائه وبذلك أتوصل إلى إجمال مرتبته في العلوم حتى يمكن لي أن آخذ عنه ما يساعد به الحال). وهو لا يقتصر في الترجمة (وخاصة منها ترجمة العالم) على الأبواب المعلومة للتعريف بالشخص بل يفصل في قراءاته ومحتوى إقرائه ويناقشه أحياناً ويستجيزه في فروع وأصول ذلك العلم. وما شد انتباهنا في هذه الترجمات أمور نجملها فيما يلي:
* استجازات السنوسي وإجازاته مع علماء عصره الذين التقاهم في رحلته إلى الحج، وهو لعمري تقليد يعتمده أغلب علماء تلك العصور في التحصيل عندما يسافرون لأداء الفريضة. فهذا الشيخ رحمه الله الهندي يجيزه مشافهة في الصحاح الستة بأسانيده وهذا الشيخ عبد الجليل برادة يطلب إجازة السنوسي بما له فيه سند عن أشياخه التونسيين وغيرهم ويجيزه بجميع الأثبات التي يتصل إجازة مطلقة.
وفي عرضه لذلك التقليد تظهر مكة بمقام القطب الرابط بين علماء أطراف الأمة المترامية: تتسبب في اجتماعهم وتمكنهم من إنتاج ما يمكن أن نصطلح على تسميته بـ (العصارة العلمية المكية) قبل أن تساهم في إعادة توزيع الخبرات الناتجة عن تلك العصارة على البلاد الإسلامية (انظر على سبيل المثال تبني السلطان العثماني طباعة كتاب (إظهار الحق) لرحمة الله الهندي، أو دعوة الشيخ ظافر للسنوسي بفتح صحيفة عربية إسلامية لجمع كلمة الإسلام على سلطنة آل عثمان والمدافعة عنها) سواء عبر رسم خارطة تنقل جديدة للعلماء أو رجوع هؤلاء إلى أوطانهم مع ما تمثله تلك العودة من محور جذب واهتمام وتشريف من أهل الأدب والعلم والحكام والعامة في بلدانهم.
• تعرض السنوسي في مؤلفه وبشكل عرضي لأخبار علماء تونسيين عاشوا نفس الفترة، مما دفعنا لاستكمال هذا العرض بالبحث في تراجمه التي أوردها لعلماء تونس في عصره (من خلال كتابه مسامرات الظريف) ولصورة مكة في هذه التراجم.
• رصد تحرك العلماء الكبار بين أقطار العالم الإسلامي وما لذلك من تأثير على الوعي الجمعي للأمة في عصر بدأ يتهددها فيه الغرب الزاحف. فهذا الشيخ رحمه الله الهندي يبرز صيته وتآليفه ومناظراته مع قسيسي الهند وينتقل إلى مكة فيألف إظهار الحق والتحفة الاثني عشرية وغيرها من الرسائل ويرد الأستانة ويجتمع بشيخ الإسلام فيها. وهذا الشيخ عبد الجليل برادة المدني يتقن تعلم التركية والفارسية والهندية والحبشية ويبرع في فصاحة اللسان العربي ويأخذ عن علماء الإسلام بلغاتهم، ويدخل مصر فيقيم بها ثلاثة أشهر مجتمعاً إلى علمائها كالشيخ الأقباني والشيخ الذهبي، ويتوجه إلى الأستانة فيبقى بها سبعة أشهر ويجتمع إلى جلة علمائها وأفاضلها، وهذا الشيخ خليل الخربوتي (حامل راية مذهب أبي حنيفة في المدينة المنورة) يرتحل إلى البلاد الهندية سنة 1286هـ وتستمر سياحته بها خمس سنوات.
وهذا الشيخ محمد الشنقيطي ينتقل في الصحراء الكبرى ويقيم بتندوف (في موريتانيا اليوم) ويدخل إلى فاس ومراكش ومصر قبل أن يقيم بمكة ويرتحل إلى الأستانة والشام ويؤوب إلى المدينة المنورة مجاوراً. وهذا العلامة الشيخ محمد بن مصطفى بيرم يستقر بمصر ويصبح أحد أعضاء المحاكم بها.
صورة مكة في كتاب (مسامرات الظريف):
جمع الكاتب في (مسامرات الظريف بحسن التعريف) علماء تونس ومدرسيها وقضاتها ومشايخها ومفتييها، معرفاً بهم وبأنسابهم، وبمسيرتهم العلمية وارتقائهم في سلم المراكز والخطط التي تقلدوها، وبعلاقاتهم ورحلاتهم وآثارهم شعراً كانت أم نثراً الخ.
وسنحاول عبر التعرض لبعض من ترجم لهم تجميع عناصر الصورة التي يقدمها السنوسي للحرمين الشريفين، والدور الذي لعبته مكة في اكتمال شخصيته المترجم لهم.
تعرضنا أعلاه إلى أن السنوسي -وغيره من علماء عصره- كان يعتبر مخالطة العلماء في الحج وتحصيل معارفهم والتمكن من استجازتهم في فنون العلوم النقلية والعقلية والحكيمة من أرقى المراتب العلمية التي يمكن أن يحصلها المرء لذلك يخبرنا في عدة مواضع عن حرص بعض العلماء القيام بأكثر من حجة:
• فشيخة وشيخ شيوخه إبراهيم الرباحي حج مرتين، الأولى سنة 1241هـ وعاد إلى تونس ثاني أيام عيد الفطر عام 1242هـ (واتخذ العلماء مقدمة عيداً وهنأه تلميذه الوزير المؤرخ الشيخ أحمد بن أبي الضايف بقصيدة طويلة منها
وسار لبيت الله والعز متبع وشدد بالتقوى شديد ذوي النزل
فحصل من تلك البقاع مغانماً مفاتيح فتح لا ترام ولا تملي
وجاد على الأقطار من وبل علمه فأينع غصن العلم من ذلك الوبل
وتطلعنا الأخبار على نشاط علمي وأدبي حثيث له في هذا الحجة كمدح الشيخ عبد الشكور المدني له بقصيدة أجابه عنها الرياحي بمثلها، وممن زاره بمكة المكرمة الشيخ ابن سراج المكاوي الذي أنشده:
ما زال بابك مكة مفتوحة وترابها فوق الجباه رسوم
حتى ينادي في البلاد بأسرها هذا المقام وأنت إبراهيم
فيجيبه الشيخ الرياحي:
قسماً بمكة والمشاعر كلها لهي السنا وسراجها ابن سراج
واستجازه الشيخان أحمد صويمع المدني وسالم السرسي المدني فأجازهما، وأجاز صالح الشابي. وحج الثانية عام 1253هـ نيابة عن الأمير مصطفى باشا باي، وعند اجتيازه مصر أقام بها خمسة عشر يوماً يطلب الاجتماع بالشيخ النميلي، وفيها اجتماع بأعلام الحرمين الشريفين كمحدث المدينة المنورة الشيخ محمد عابد السندي (وأجازه بما حواه ثبته المسمى بحصر الشارد في أسانيد الشيخ عابد)
وهذا الشيخ محمد بن أحمد النيفر يحج بيت الله الحرام ثلاثاً، يتوفى في آخرها ويدفن بالبقيع.
وهذا الشيخ عبد الله الدراجي يحج بيت الله الحرام عام 1246هـ ويدخل مصر نحو 7 سنين ويستقر بتونس قبل أن يهاجر إلى المدينة المنورة ليجاور فيها سنة 1283هـ إلى أن يتوفاه الله أوائل 1297هـ
وهذا الشيخ أحمد البارودي يستأذن الأمير حمودة باشا في حجة ثانية فلم يأذن له فاستعطفه في قصيدة طويلة (104 بيتاً) يقول فيها:
كان لي فيها مقام سبقت لي بها الحسنى ومن قلبي أب
لم يكن إذ ذاك من يمنعني من حبيب بل ولا لي مآرب
بت فيها ليلة ما مثلها من شهور الدهر ألف تحسب
فيأذن له، وكان ذلك عام 1227هـ
ومن الإشارات المهمة التي يسوقها إلينا السنوسي في تراجمه والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحج إمارة الركب، وأمانة الصرة، وشهادة أوقاف الحرمين.
فـ(شيخ الركب) كما يطلق عليه في التاريخ التونسي (يلقب عند المصريين بأمير الحج) تعينه الدولة ويقود وفد الحجيج التونسيين براً أو بحراً، وكان عادة ما ينظم لأركاب الحج التابعة لبقية الأقطار المغربية. وقد يكلف شيخ الركب بتوصيل الصرة أحياناً. والصرة اصطلاح غلب في تونس على ريع الأوقاف المحبسة على فقراء الحرمين الشريفين يحمل ويوزع كل عام. ومن عناية الحكام باختيار من يتوجه بذلك المال لتوزيعه على مستحقيه ينتخبون له الأفضل فالأفضل من أهل العلم أو من أعيان أهل البلاد المعروفين بالثروة والعفة والديانة.
فهذا الشيخ حسن الشريف يحج بيت الله الحرام (أميراً على الركب التونسي) وهذا الشيخ محمد النيفر (يقصده أهل الحرمين كثيراً ولا يرد واحداً منهم خالياً وربما تكرم عليهم بأمتعته إن لم يجد ما يواسيهم به) وكان ذلك سنة 1267هـ، وهذا الشيخ أحمد بن سلامة يتولى خطة أوقاف الحرمين الشريفين سنة 1216هـ ويليها عنه ابنه الشيخ الطيب من بعده..
ومن بين الذين (تبركوا بحمل الصرة إلى الحجاز) وصرفها على مستحقيها الشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ محمد النيفر، ومن قبلهما الشيخ محمد بن عبد الملك العواني القيرواني، وسافر قبله بتلك الصفة أبو الفلاح صالح زيد (تـ 1284هـ) في عهد حمودة باشا وبصحبته الشيخ حمودة بن عبد العزيز (ت 1202 هـ) بعنوان قاضي الركب، وقبلهم خرج الشيخ عمر المرابط شيخ ركب سنة 1180هـ.
وتعتبر هذا الخطة وهذا التقليد الذي دأبت عليه تونس (وغيرها من الأقطار الإسلامية) من بركات مكة. ذلك أن رحلة الحج، التي كانت تدوم أشهراً، كانت تشهد حركة علمية ثرية) فقد كان العالم من أهل أركاب الحج ينتصب أثناء ارتحاله لإقراء العلم هنا وهناك ولا سيما علوم الدين كالفقه والحديث ويجيز غيره ويفيد ويستفيد، وكانت الأركاب التي تجتمع ببعضها مناسبة اجتماعية وسياسية في غاية الأهمية، يتبادل فيها أخبار الأمة الإسلامية ومشاغل شعوبها وهمومهم، وفيها كان الفقهاء والقضاة المصاحبون يطورون من معارفهم بطرح المسائل المستجدة ومناقشة أصولها وفروعها لمحاولة الخروج برأي فقهي (انظر مثلاً النقاشات التي نقلها لنا السنوسي حول الصورة الفوتوغرافية والتلغراف أثناء اصطحابه للركب الشامي). من بركات مكة إذاً وضع الخبرات الإسلامية في ذلك الزمن على ذمة المسلمين جميعهم، أفراداً وشعوباً، حكاماً ومحكومين.
خاتمة:
رأينا من خلال تتبعنا لكتابي (الرحلة الحجازية) و (مسامرات الظريف) كيف حاول الشيخ السنوسي رسم معالم صورة مشرقة لمكة تترجم لموقف فكري عام من الدور الذي يمكن أن تلعبه في حياة المسلمين في عصره.
فالطريقة التي صاغ بها تراجم (المسامرات) والجزء الثالث من (الرحلة) توحي لنا بالمواقف التالية:
تعظيمه للعلماء وإجلاله لمراتبهم ولطرائق تحصيلهم وسلاسلها.
اعتباره أن دور علماء الأمة مركزي في النهوض بشؤون البلاد الإسلامية الاجتماعية السياسية والاقتصادية.
تأكيده على مركزية ومحورية مكة في جمع كلمة الأمة ورص صفوفها حول علمائها
حرصه على حرية واستقلالية حركة العلم والعلماء من وإلى المركز: مكة.
التزامه بحركة التطور الذاتي للأمة معتبراً أن أمانة العلماء التي في أعناقهم تتمثل في الحفاظ على (بيضة الإسلام) من التخلف الداخلي من جهة ومن الغزو الخارج من جهة أخرى.
إشادته بالإصلاحات التي نادى بها بعض علماء الأمة في الاستانة ومصر وتونس، ومشاركته الفعلية في بعضها.
وقد ترجم هذه المواقف بشكل ملموس سواء في تحصيله للعلوم أو في إقرائه أوفي الخطط الإدارية والعلمية التي اضطلع بها أو في لقاءاته ومناظراته مع علماء الأمة وسياسييها أو في انخراطه في فكرة الجامعة الإسلامية أو غير ذلك من مناحي نشاطاته الثقافية والسياسية.
فهل كانت الصورة التي حاول السنوي رسمها للحرمين الشريفين هي نفسها لدى العلماء التونسيين الذين عاصروه والذين تركوا مؤلفات تاريخية عن تلك المرحلة ورجالاتها؟
إن عملاً يتناول صورة مكة والمدينة في آثار بعض علماء تلك الفترة كالشيخ ابن أبي الضياف والشيخ محمد النيفر والشيخ محمد مخلوف والشيخ محمود مقديش وغيرهم ضروري لاكتمال الصورة.

ثالثاً :