بوابة الحرمين الشريفين
رحلات إلى الحرمين الشريفين
من رحلات الحج في الأدب الفارسي

جولة بين رحلات الحج في الأدب الفارسي
أ. د. بديع محمد جمعة
تقديم:
حظي الأدب الفارسي عبر عصوره المختلفة بالعديد من كتب الرحلات، التي ساح أصحابها في العديد من الدول الأجنبية والإسلامية، ثم توجوا رحلاتهم بالتوجه صوب المشاعر المقدسة بمكة المكرمة والمدينة المنورة، معتمرين أو حاجين إلى بيت الله الحرام، إلى الكعبة المشرفة، وزائرين إلى مسجد رسول الله محمد عليه أزكى السلام بالمدينة المنورة.
وأكثر هذه الرحلات شهرة وكذا في البعد التاريخي، رحلات الشاعر الفارسي الشهير ناصر خسرو والتي أوردها في كتابه النثري الوحيد (سفر نامه) أي كتاب السفر، وقد استغرقت هذه الرحلات سبع سنوات بين عامي 437هـ، 444هـ أولى هذه الرحلات حين أدى ناصر خسرو فريضة الحج أربع مرات خلال هذه السنوات. وقد أجاد ناصر خسرو في وصفه للأماكن من الشام إلى الحجاز، أو من مصر إلى جدة ومنها إلى مكة والمدينة.
أما الرحلتان الأخريان فقد اخترتهما متقاربتين في زمانهـا، إذ حدثت الرحلتان في الفترة ما بين عامي 1279هـ و1292 هـ، حيث كانت هذه الفترة غنية بكتب الرحلات الفارسية إلى دول العالم الإسلامي أو إلى خارجه، وهاتان الرحلتان هما: (أ) سفر نامه سيف الدولة والمعروفة باسم (سفر نامهء مكة) وقد بدأها في الرابع من شهر شعبان عام 1279هـ، وكان وصوله إلى جدة في الثالث من شهر ذي الحجة، ومنها واصل الرحلة إلى مكة المكرمة وبعدها إلى المدينة المنورة، وقد حرص على شرح المناسك وكذلك الأماكن التي زارها.
(ب) سفرنامهء فرهاد ميرزا، وقد بدأها في السابع من شعبان عام 1292هـ وأنهاهـا في الثاني من ربيع الثاني عام 1293هـ، أي أنهـا استغرقت مائتين وثلاثين يوماً، لذا جاءت أكثر تفصيلاً وإسهاباً من سابقتيها، وكان نصيب رحلة الحج منها خمسين يوماً وذلك من السابع من ذي القعدة عام 1292هـ إلى السابع والعشرين من ذي الحجة من نفس العام، وقد بدأها بزيارة المدينة عن طريق ينبع وختمها بزيارة مكة وجدة.
حرصت على اختيار هذه الرحلات كنموذج لما حظى به الأدب الفارسي من رحلات إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة وإلى مسجد رسوله الكريم بالمدينة المنورة، وكذلك لعقد مقارنات بين هذه الرحلات، وهل اتفق الرحالة فيما بينهم على الرغم من الفارق الزمني بين الرحلة الأولى (القرن الخامس الهجري) وبين بقية الرحلات (القرن الثالث عشر الهجري).
وكم آمل أن أجد الفرصة لكي أتحدث بعد ذلك عن رحلات مكية أخرى حظى بها الأدب الفارسي عبر عصوره المختلفة.
كما انتهز الفرصة لكي أدعو الندوة لتكليف المختصين بترجمة جميع رحلات الحج في الآداب العالمية إلى اللغة العربية إثراء للمكتبة العربية وتوطيداً للعلاقات الإسلامية بين بلدان العالم الإسلامي كله، باعتبار أن مكة هي مركز هذه العلاقات، والكل يلتقون في موسم الحج بروح الأخوة الإسلامية لا بروح العصبية العرقية أو الوطنية أو أية عصبية أخرى.
والله الموفق،، بديع محمد جمعة
القاهرة 15 شوال 1425هـ 28 نوفمبر 2004م
الرحلة الأولى: سفرنامه ناصر خسرو:
أدى ناصر خسرو فريضة الحج أربع مرات، كان أولاها عام 438هـ، وقد أشار إلى هذه الرحلة دون أية تفاصيل مرجئاً الحديث عنها إلى رحلة حج أخرى، وقد اكتفى بالحديث عن مشاق السفر، وأنه سافر سيراً على الأقدام من القدس الشريف إِلى مكة المكرمة في ثلاثة عشر يوماً، وكان الطريق - على حد قوله- مليئاً بالأعراب الخطرين الذين لا يتورعون عن القتل والسلب.
عاد بعدها ناصر خسرو إِلى القدس مرة ثانية، ومن هناك واصل الرحلة إِلى مصر، حيث أقام فيها ثلاث سنوات، أتاحت له هذه الإقامة ثلاث رحلات حج، وحيث استطاع أن يتقرب إِلى سلطان مصر في ذلك الوقت المستنصر بالله الفاطمي، فكان يبعثه ضمن البعثة المصرية الرسمية المصاحبة للكسوة الشريفة، وقد قال عن هذه السفرة الثانية:
... رافقت الكسوة قاصدين الذهاب إِلى مكة، وقد غادرت القافلة المكلفة بإِيصال الكسوة من مصر في غرة شهر ذي القعدة، وكنت مع القافلة حيث وصلنا إِلى بحر القلزم، وركبنا الباخرة، وبعد خمسة عشر يوماً وصلنا إِلى ميناء الحجاز على ساحل الحجاز، ومن الحجاز اتجهنا إِلى المدينة فوصلناها بعد أربعة أيام.
ثم قال في وصف المدينة المنورة:
تقع المدينة على حافة الصحراء، أرضها رطبة ذات ملوحة، ماؤها عذب إلا أنه قليل، تكثر فيهـا أشجار النخيل، وتقع قبة مسجد المدينة نحو الجنوب. ومساحة مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام تعادل مساحة المسجد الحرام. ويقع قبر الرسول بجانب المنبر، وإذا اتجهت إلى القبلة فإن القبر يكون على يسارك، أما عندما يقف الخطيب على المنبر، فإن القبر الشريف يكون على يمينه، والقبر بناء مخمس الشكل، وعلى القبر خمسة أساطين تحنو على القبر، ويربط بين الأبواب الخمسة درابزين يحول بين المرء والدخول إلى القبر، وعلى طول الدرابزين من الأعلى غطاء مشبك يمنع الطيور من تلويث القبر.
وبين القبر والمنبر مساحة تسمى الروضة، وهي روضة من رياض الجنة كما قال الصادق الأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة}.
وللمسجد باب يؤدي إلى خارج المدينة في الجهة الجنوبية، حيث يوجد قبر حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، لذا يسمى المكان (قبور الشهداء).
ثم أخبرنا ناصر خسرو بأن القافلة أقامت بالمدينة يومين فقط، عجلت بعدها بالتوجه نحو مكة. كي يصلوها بالكسوة قبل وقفة عيد الأضحى، حيث كان وصلوهم إليها الاثنين السادس من ذي الحجة ودخلوا إلى الكعبة من باب الصفا.
وفي يوم الأربعاء يوم عرفة صعدوا إلى عرفة بعون الله وأدوا مناسك الحج.
وهكذا أنهـى الحديث عن الحجة الثانية دون أن يورد حديثاً مفصلاً عن مكة المكرمة مرجئاً الحديث - كما يقول - إلى مرة أخرى تتاح له فرصة أطول يعايش فيها مكة ومناسكها حتى يكون حديثه شاملاً.
وفي عام أربعين وأربعمائة أتيحت له فرصة الحج للمرة الثالثة، وذلك بمصاحبة البعثة الرسمية المكلفة بإيصال الكسوة الشريفة، وقد سلكت الرحلة نفس الطريق في الأراضي المصرية وكذلك بالباخرة حتى ميناء الحجاز (يقصد جدة) وهنا اختلف الأمر عن الرحلة السابقة حيث توجه الركب إلى مكة مباشرة ووصلوها في الثامن من شهر ذي الحجة، حيث أدوا بعد ذلك جميع مناسك الحج، وعادوا بعدها إلى مصر دون أن يتحدث بشيء عن مكة كما فعل في الحجتين الأولى والثانية.
وكانت الحجة الرابعة، وهي الأخيرة له، قد قام بهـا بمفرده عام اثنين وأربعين وأربعمائة وذلك عن طريق أسوان والقلزم، وكانت فرصة سانحة لكي يقيم هذه المرة مدة ستة أشهر دون أن يكون مرتبطاً بالبعثة الرسمية المصرية كالرحلتين السابقتين. ونتيجة لطول الإقامة فقد أتيحت له الفرصة لكي يشاهد ويسجل ويزور كل الأماكن التي لم تتح له زيارتها من قبل، ولهذا جاء حديثه هذه المرة واضحاً مفصلاً.
وكان أول ما نزل، نزل بمدينة جدة، فحرص على وصفهـا وانطباعاته عنهـا، ومما قاله: (جدة مدينة كبيرة ذات سور عظيم، تقع على لساحل البحر الأحمر، عدد سكانها في ذلك الوقت نحو خمسة آلاف نسمة، أسواقها نظيفة جيدة، ولا أثر للعمران خارج سور مدينة جدة، إلا مسجد يعرف بمسجد الرسول عليه السلام. ولسور جدة بابان، باب مما يلي مكة، وباب مما يلي البحر، وجدة بلد غير ذي زرع، وكل ما فيها يجلب إليها من ريف الحجاز، والمسافة بين جدة ومكة اثنا عشر فرسخاً، وأمير جدة أحد رعايا أمير مكة المكرمة، الذي يعد كذلك أميراً للمدينة).
ثم غادر مدينة جدة يوم الجمعة بعد صلاة العشاء، ووصل إلى مكة كما يقول يوم الأحد سلخ جمادى الآخرة، فوجدها قد امتلأت بالعمار القادمين من كل أنحاء الحجاز واليمن، إذ أن شهر رجب من كل عام موسم عظيم تعج مكة بعمارها وزوارها، وكذلك في رمضان وعيد الفطر، وإذا كان الحجاج من كل أطراف الأرض يفدون إليها في موسم الحج، فإن سكان أطراف الحجاز واليمن يؤمون مكة في كل الأوقات وبخاصة في هذه المواسم الثلاثة: غرة رجب، وعيد الفطر وعيد الأضحى وذلك لقرب مكة منهم!
بعد ذلك بدأ يصف مكة، وما يحيط بهـا من جبال، وما تضمه من أسواق، ومما قاله: تقع مكة في واد تحيط به الجبال من كل جانب، لذا لا تبدو مكة واضحة لقاصدها إلا أذا اقترب منها، وأعلى جبالها جبل (أبي قبيس)، وأول ما تشرق الشمس في مكة يشاهد قرصهـا مطلاً على مكة من أعلى هذا الجبل.
تحيط بالمسجد الحرام أسواق كثيرة، ودروب ضيقة تزدحم بالمتاجر وكلما كان أحد الدروب قريباً من جبل من الجبال، فإنهم يبنون عليه سقيفة، ويجعلون لها بوابة للدخول وأخرى للخروج.
ويقع في الجانب الشرقي من الحرم سوق كبيرة تمتد من الشمال إلى الجنوب، ويقع مدخل تلك السوق الرئيسي في الجهة الجنوبية التي في سفح أبي قبيس، أما الصفا فيقع تحت سقف أبي قبيس مباشرة، بل إن درجات الصفا جزء من صخور أبي قبيس.
ويصعد الناس فوق درجات محاذية لتلك الصخور للبدء في مناسك السعي وتقع المروة في نهاية هذا الممر الطويل الذي يبدأ من الصفا، ويرى الساعي المتاجر عن يمنه وعن يساره خلال سعيه بين الصفا والمروة، والمروة أكثر ارتفاعاً من الصفا.
وإذا أراد المرء أن يعتمر خرج من مكة، وبعد نصف فرسخ عنها، وهناك يجمع بين الحل والحرم، وفي هذه المواقيت مساجد عامرة يؤدي فيها العمار ركعتي إحرام العمرة: ولعله يقصد بذلك المقيمين بمكة الراغبين في أداء العمرة والاستعداد لهـا بالإحرام، أو الوافدين الذين اعتمروا عقب وصولهم من أوطانهم، ثم خلعوا ملابس الإحرام وأرادوا تأدية العمرة مرة أخرى، وجب عليهم الخروج إلى هذه المواقيت شأنهم شأن المقيمين، ويغتسلون ويرتدون ملابس الإحرام ويصلون ركعتي الإحرام، ثم يتوجهون بعد ذلك إلى الكعبة المشرفة لإتمام العمرة مرة أخرى.
بعد ذلك بدأ يشرح كيفية الإحرام، فقال:
الإحرام يعني أن يتخلص الإنسان من الخيط، ويرتدي إزاراً لا خياطة به، والرداء مكون من قطعتين، إزار ورداء، يلتف بهما الإنسان ثم يرفع صوته بالدعاء قائلاً:
(لبيك اللهم لبيك) ويتوجه بعد ذلك إلى مكة، فإذا وصلها دخل المسجد الحرام وتوجه إلى الكعبة، وعليه أن تكون الكعبة على يساره، ويستلم الحجر الأسود، حيث يبدأ الطواف ويكرره على هذه الهيئة سبع مرات، يرمل في ثلاثة أشواط، ويسير الهوينا في الأشواط الأربعة الباقية.
وعندما ينتهي الإنسان من نسك الطواف بالبيت الحرام، يتوجه إلى مقام إبراهيم عليه السلام والمقام في مواجهة الكعبة، ويقف خلف المقام ويصلي ركعتي الطواف، وبعد الصلاة والدعاء يتوجه المرء إلى بئر زمزم، فإذا شرب من ذلك الماء المقدس وغسل وجهه ويديه، غادر البئر إلى باب الصفا، وهو أحد أبواب المسجد الحرام المؤدية إلى المسعى، وما أن يصل المرء إلى الصفا، يرتقي تلك الدرجات التي في السفح، ويستقبل القبلة داعياً، وينوي السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم ينحدر من الصفا إلى المروة، ويكون سيره من الجنوب إلى الشمال.
وقد سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان، وأسرع، وأمر أصحابه بالإسراع حتى لا يظن بهم المشركون ضعفاً أو خوراً، ويهرول المرء مسافة خمسين قدماً في هذا المكان. وهذا المكان الذي هرول فيه النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر للعيان ومعلم بعلامات بارزة لا تخطئها العين.
ثم يتحدث بعد ذلك عما يفعله العمار والحجاج بعد السعي من تقصير للشعر، فقال: إذا نزل الساعي من المروة في نهاية السعي فإنه يرى سوقاً كبيراً، وفي هذا السوق أحصى ناصر خسرو عشرين دكاناً للحلاقة، يحلقون فيها ويقصرون شعور الحجاج والعمار، وتعتبر هذه الدكاكين امتداداً لسوق كبير يقع شرق المسجد الحرام يقال له: سوق العطارين، وهو سوق غاية في الجمال، وأكثر ما يباع فيه الأدوية والعقاقير الطبية والأعشاب.
ويقدر سكان مكة بألفي نسمة، فيها خمسمائة من الغرباء والمجاورين.
وأخيراً ينهي ناصر خسرو زيارته لمكة المكرمة للمرة الرابعة محدداً المدة وتاريخ زيارته هذه قائلاً:
هذه هي المرة الرابعة التي أزور فيها مكة، وقد مكثت بها مجاوراً من غرة رجب 422هـ (10 نوفمبر 1050م) إلى العشرين من ذي الحجة (3 مايو 1051م).
بعد أن أنهى ناصر خسرو مراسم الحج وأدى جميع مناسكه، غادر مكة متجهاً إلى اليمن، وبعدها بدأ يسجل وصفه للكعبة المشرفة، وغيرها من الأماكن المرتبطة بمناسك الحج، وهذا أهم ما قدمه في كتابه (سفرنامه):
وصف الكعبة المشرفة من الخارج:
الكعبة بناء مربع يميل إلى الاستطالة حيث أن الزاوية الممتدة من الشمال إلى الجنوب تبدو أطول من الزاوية الممتدة من الشرق إلى الغرب، وارتفاع الكعبة ثلاثون ذراعاً، وعرضها تسعة عشر ذراعاً. ويقع باب الكعبة في الجهة الشرقية. وإذا ولجت داخل الكعبة، فإن الركن العراقي يكون على يمينك والحجر الأسود على يسارك، وتسمى زاوية الكعبة الجنوبية الغربية بالركن اليماني، كما تسمى الزاوية الشمالية الغربية بالركن الشامي.
أما الحجر الأسود فهو في الزاوية الجنوبية الشرقية من الكعبة، وإذا وقف الرجل معتدلاً كان الحجر مقابل صدره، وطول الحجر الأسود بطول اليد ممدودة، مضافاً إليها أربعة أصابع، أما عرضه فقدره ثمانية أصابع والمسافة بين الحجر الأسود وباب الكعبة أربعة أذرع، ويسمى ذلك الموضع بالملتزم.
وارتفاع باب الكعبة قدره أربعة أذرع، وللكعبة سلم خشبي يرقى عليه إلى الداخل وقت الحاجة، أما سعة الكعبة من الداخل فتسمح بوقوف عشرة رجال صفا واحداً. وباب الكعبة مصنوع من خشب الساج وله مصراعان، وارتفاعه ستة أذرع ونصف، وقد زينت واجهته وأطرافه بآيات قرآنية، مكتوبة بالفضة المذهبة تتخللها تحاريق سوداء، وقد كتبت عليه هذه الآية حتى آخرها: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)) [آل عمران:96]، وله حلقتان فضيتان كبيرتان أرسلتا من غزنين (بأفغانستان)، وقد ركبتا على مصراعيه مرتفعتين بحيث لا تصل إليهما يد، بينما توجد حلقتان أخريان تحتهما أصغر حجماً، ويمكن أن تصل إليهما اليد. وفيهما قفل كبير من الفضة، يقفل به الباب.
وصف الكعبة من الداخل:
يبلغ سمك حائط الكعبة ستة أشبار، وأرضها مكسوة بالرخام الأبيض، وبها ثلاث خلوات صغيرة وكأنها طاقات، تقابل إحداها الباب، والأخريان على الجانب الشمالي للمداخل، والعمد التي تسند السقف كلها من الخشب الساج المربع إلا عمود واحد مدور، أما جدران الكعبة من الداخل فكلها مغطاة بألواح من الرخام الملون، وعلى الجانب الغربي توجد ستة محاريب من الفضة يبلغ ارتفاع كل منها قامة الرجل ومزينة بنقوش كثيرة من الذهب والفضة، وجدران الكعبة الأربعة خالية من النقوش حتى أربعة أذرع من الأرض، أما بعد ذلك وحتى السقف فمزينة بالرخام المنقوش والموشى أغلبه بالذهب.
وفوق كل خلوة من الخلوات الثلاث لوحان من خشب سفينة نوح، طول كل منهما خمسة أزرع وعرضه ذراع واحد. وهناك سلم يؤدي إلى سطح الكعبة يسمى باب الرحمة، وقد صنع هذا الباب ذو المصراع الواحد من الفضة، وعليه قفل من الفضة كذلك، وقد غطى سقف الكعبة بالخشب المغطى بالحرير الذي يحجبه عن الأنظار.
وبين الأعمدة تتدلى ثلاثة قناديل مضيئة، كما أن للكعبة أربعة مساقط بغطاء زجاجي يسمح بمرور الضوء ولا يسمح بتسرب مياه الأمطار، حيث خصص لها ميزاب يقع في الجهة الشمالية وطول فتحته ثلاثة أشبار، وقد أحيط بغلاف ذهبي.
أما عن الكسوة التي تغطي بها الكعبة فبيضاء، وقد طرزت في موضعين عرض كل منهما ذراع، ويفصل بينهما مسافة ثمانية أذرع، وعلى هذا فإن الكسوة مقسمة إلى ثلاثة أقسام، كل قسم منها عشرة أذرع، يتوسطها القسم المطرز في موضعيه، بينما القسم العلوي، وعرضه عشرة أذرع، وكذلك القسم السفلي وعرضه كذلك عشرة أذرع، فليسا مطرزين، كما نسجت على جوانب الكسوة الأربع محاريب ملونة بخيوط من الذهب، في كل جانب منها ثلاثة محاريب، الأوسط منها كبير، والمحرابان الصغيران على جانبيه، ويوجد خارج الكعبة من الجهة الشمالية حائط مقوس كنصف دائرة، يبلغ ارتفاعه ذراعاً ونصف، وتمتد شفتاه إلى قريب من ركني الكعبة الشرقي والغربي، وقد بلطت أرضيته بالرخام الملون المنقوش، ويسمى (الحجر) وبه يصب ماء الميزاب، وقد وضعت تحته قلعة من الحجر الأخضر على شكل محراب، وهي قطعة كبيرة يمكن للرجل أن يصلي عليها، وقد وضعت لتتجمع فيها مياه الأمطار. وقد حضر ناصر خسرو مراسم فتح الكعبة ذات مرة، حيث قال: في هذه السنة (442 هـ) كنت بمكة مجاوراً منذ أول رجب، وعادة أهل مكة أنهم يفتحون باب الكعبة طوال هذا الشهر في كل يوم مع إشراقة الشمس.
وصف فتح باب الكعبة:
مفتاح باب الكعبة تحتفظ به قبيلة بني شيبة، وعند فتح باب الكعبة يتقدم زعيم القبيلة وبيده المفتاح ويصاحبه في ذلك خمسة أو ستة أفراد من ذويه، وحينما يقف زعيم القبيلة أسفل باب الكعبة، إذا به يأمر عشرة أنفار من الحجاج المتجمعين أمام الباب كي يحضروا سلماً خشبياً يصعد عليه الزعيم ويقف على عتبة الكعبة برفقة اثنين من خواصه يقومان برفع الستار الديباج، ويمسك كل منهما طرفاً منه، بحيث يحجب الشيخ وهو يفتح الباب، وبعد أن ينزع القفل وينفتح الباب يرفع الحجاج أو المعتمرون أيديهم بالدعاء، فيدرك كل من يستمع إلى أصواتهم بأن باب الكعبة قد فتح، فيرفع الجميع أصواتهم بالتهليل والتكبير والدعاء، بعد ذلك يدخل زعيم القبيلة ويصلي ركعتين. وبعدها يفتح الباب على مصراعيه، ثم يقف الزعيم على العتبة ويقرأ الخطبة بصوت مرتفع. ويصلي على رسول الله عليه السلام وعلى آله الكرام، ثم يقف الزعيم ومعاونوه على جانبي باب الكعبة ثم يأخذ الحجاج في الصعود ودخول الكعبة كي يصلي كل منهم ركعتين بداخلها، ثم يخرج، ويدوم ذلك إلى ما يقرب من منتصف النهار...... وفي غير رجب يفتح باب الكعبة كذلك أيام الاثنين والخميس والجمعة من أشهر شعبان ورمضان وشوال، وإذا جاء شهر ذو القعدة، أغلق الباب ويواصل ناصر خسرو حديثه عن الأماكن المقدسة والشعائر الإسلامية المرتبطة بفريضة الحج ومنها:
مقام إبراهيم:
يقع مقام إبراهيم شرقي الكعبة، وهو عبارة عن صخرة بها آثار قدمي النبي إبراهيم عليه السلام. وقد وضع هذا الحجر في قلب حجر آخر، ثم أحيط بغلاف مربع الشكل قدر قامة رجل وهو من الخشب وقد زين بألواح من الفضة، كما أحكم ربط الغلاف بالحائط بسلاسل من الجانبين، وعليه قفلان حتى لا يستطيع أحد أن يلمس الحجر، والمسافة بين مقام إبراهيم والكعبة قرابة العشرين ذراعاً.
بئر زمزم:
يقع بئر زمزم شرقي الكعبة في الزاوية المحاذية للحجر الأسود، وبين زمزم والكعبة ستة وأربعون ذراعاً، واتساع فوهة البئر ثلاثة أزرع ونصف في مثلها، وماء زمزم به ملوحة ولكنه مستساغ، وقد بنى حوله جدار ارتفاعه ذراعان، وفي جوانبه الأربعة أحواض يصب فيها الماء كي يتوضأ الناس، وأرض المنطقة المحيطة به من الخشب المشبك ليسيل من بينها الماء الذي يراق بها.
ويوجد أمام البئر جهة الشرق، بناء مربع الشكل تعلوه قبة يسمى (سقاية الحاج)، وقد وضعت به أزيار كي يشرب منها الحجاج، ويلي هذا البناء بناء آخر مستطيل عليه ثلاث قباب يسمى خزانة الزيت، به الشمع والزيت والقناديل.
وحول الكعبة أعمدة يتصل بعضها بالبعض بواسطة عروق من الخشب عليها زخارف ونقوش من الفضة، وتدلى منها سلاسل وحلقات يعلق عليها الشمع والمصابيح ليلاً، وتسمى بسكة المشاكل. ويفصل هذه المشاعل عن الكعبة مسافة مائة وخمسين ذراعاً، وتحت المظلة المحيطة بالمسجد وعلى جميع جوانبه صناديق مليئة بالمصاحف أوقفها المسلمون من كل أنحاء العالم الإسلامي.
عمرة الجعرانة:
تقع الجعرانة في الشمال الشرقي من مكة وعلى بعد أربعة فراسخ من البيت الحرام، ويقال بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في هذا الموضع عند عودته من غزوة الطائف، وكان ذلك في الخامس عشر من شهر ذي القعدة من السنة الثامنة للهجرة، وأنه أحرم من هذا المكان، وتوجه إلى مكة وطاف وسعى، وقد اتخذت هذه العمرة النبوية سنة تؤدى في هذا الموسم.
وفي هذا الموضع بئران ماؤهما عذب، أحدهما بئر الرسول عليه السلام، وثانيهما بئر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، كما توجد على مقربة من البئرين صخرة كبيرة فيها فجوات كأنها كئوس، قيل بأن النبي صلى الله عليه وسلم عجن الدقيق فيها بيديه، كذا فإن من يزورون هذا الموقع الآن يعجنون الدقيق بأيديهـم بماء هذين البئرين.
كما يقال بأنه يوجد في الموقع صخرة كبيرة مرتفعة كان بلال رضي الله عنه يقف عليها مؤذناً، لذا فالزائرون يصعدون عليها ويؤذنون.
مشعر عرفات:
تقع صحراء عرفات وسط مجموعة من الجبال الصغيرة الشبيهة بالتلال، ومساحتها لا تزيد عن فرسخين في فرسخين، وكان بها مسجد يقال إن إبراهيم عليه السلام هو الذي بناه، وهو ما يعرف الآن بمسجد نمرة، وعندما يحين وقت صلاة الظهر يصعد الخطيب على بقايا منبره ويلقي خطبة جامعة، ثم يؤذن للصلاة جامعة، فيصلي الإمام بالناس ركعتين، أي صلاة قصر للظهر، ثم يصلي بهم ركعتين آخرين تقديماً وقصراً للعمر، وبعدها يركب الإمام جملاً ويتجه إلى الجهة الشرقية من عرفات حيث يرقى جبلاً صغيراً، يسمى جبل الرحمة، حيث يدعو الله ويسأله الرحمة والغفران حتى غروب الشمس، وتوجد في سفح جبل الرحمة أحواض تملأ بالمياه أيام الحج حتى يتيسر الماء للحجيج، كما بنى فوق هذا الجبل مربع كبير، يضعون فوق قبته كثيراً من القناديل والشموع ليلة عرفة ويومه، فيرى نورها من مسافة فرسخين.
وبعد قضاء المناسك في مشعر عرفات يتحرك الحجيج بعد مغيب الشمس قاصدين المزدلفة وهي على بعد فرسخ من عرفات، هناك بناء عظيم يشبه المقصورة يؤدي فيه الحجيج صلاتي المغرب والعشاء قصراً وجمعاً، ومن هناك يلتقطون الجمرات، وعادة يقضي الحجاج هذه الليلة وهي ليلة العيد بالمزدلفة حتى صلاة الفجر، وعند طلوع الشمس يتوجهون إلى منى حيث يقيمون ويرمون الجمرات، وفي منى مسجد عظيم يقال له: مسجد الخيف. وهذا هو يوم الحجيج الأول بمنى، وهو يوم عيد الأضحى، ولكن ليس من السنة إلقاء خطبة أو صلاة عيد هناك، وإنما يقضون يومهم العاشر من ذي الحجة هناك حيث يرمون الجمرات، وتفصيلات الرجم متوفرة في كتب مناسك الحج.
أما في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة فينصرف الناس من منى حيث يسافرون إلى أوطانهم، ومن أراد الذهاب إلى مكة توجه إليها.
تعقيب:
لا شك أن كتاب سفرنامه، أول كتاب فارسي يفصل الحديث عن هذه الأماكن المقدسة، وما يؤديه المصلون من مشاعر هناك، ويعد وثيقة مهمة توضح كيف كانت الكعبة المشرفة وغيرها من الأماكن المقدسة في منتصف القرن الخامس الهجري، وكيف كان الحجيج يؤدون مناسك الحج والعمرة سيراً على الأقدام، أو على ظهور الإبل متحملين كل المشاق تلبية لنداء الرحمن لكل من استطاع إليه سبيلاً، كما أجاد ناصر خسرو وصفه للكعبة من الداخل والخارج، وكذلك وصفه لكل من الصفا والمروة وكيفية السعي بينهما هرولة أو مشياً. وكذلك حديثه المقتضب عن عرفات والمزدلفة ومنى ورمي الجمرات، ولا شك أن وصفه لهذه الأماكن لم يختلف كثيراً عما يؤديه الحجاج حتى يومنا هذا، فالمشاعر هي المشاعر والفروض والسنن هي نفس الفروض والسنن، وإذا حدثت بعض الاختلافات فليست في الجوهر، وإنما في التيسيرات التي تحاول حكومة المملكة العربية السعودية، جازاها الله خيراً، أن توفرها لخدمة ضيوف الرحمن، وذلك لأداء المناسك دون معاناة.
ومن الملاحظ أن رحلته الأولى كانت من الشام إلى الحجاز عبر بيت المقدس وعبر البوابة الشمالية للأراضي الحجازية، مشيراً إلى أن قافلة الحج كانت تعترضها جماعات البدو وقطاع الطرق، لذا كانت القوافل تستأجر من يؤمنون لها الطريق وتدفع مقابل ذلك مبالغ طائلة لزعيم كل منطقة ضماناً لسلامة وصول الحجيج إلى مكة أو المدينة وأداء مناسك الحج والعودة سالمين إلى ديارهم مرة أخرى.
والملاحظ أن (ناصر خسرو) لم يشر إلى مخاطر الطريق في رحلاته الأخرى إلى الحج، إما لأنه كان يذهب ضمن البعثة المصرية الرسمية التي تحمل معها الكسوة الشريفة، وكانت الحكومة المصرية توفر لهذه الرحلة الحراسة الكافية، أو لأن أمير منطقة جدة وهو تابع لأمير مكة كان مسئولاً عن وصول البعثة المصرية الرسمية والكسوة بسلام إلى مكة المكرمة.
والحمد لله لم يعد لهـذا الخطر المتمثل في اللصوص وقطاع الطرق وفرض الأتاوات وجود، فقد تكفلت الحكومة السعودية بتأمين جميع طرق الحج، وضربت بيد من حديد على أيدي الخارجين عن القانون، وتوفير كل الحماية والرعاية والتأمين للحجاج وأمتعتهم منذ وصولهم إلى أراضي المملكة وحتى مغادرتهم لها.
كان ناصر خسرو محدداً في كل ما يكتب ويصف، فقد كان يذكر تاريخ كل رحلة بوضوح لا لبس فيه، ومحدداً الفترة الزمنية التي تقضيها الرحلة في سفرها من منطقة إلى منطقة كأنه يكتب مذكرات يومية مرتبة ومفصلة، مثال ذلك في حديثه عن الرحلة الأولى: حيث حدد موعد خروج القافلة قاصدة الحجاز في منتصف شهر ذي القعدة عام 438هـ وكان وصولهم إلى مكان يدعى (أرعز) بعد ثلاثة أيام. ثم واصلت الرحلة مسيرها مارة بمكان يقال له (وادي القرى) ومنها توجهوا إلى مكة فوصلوها بعد عشرة أيام، وبعد أدائهم مناسك الحج عادت الرحلة إلى بيت المقدس مرة أخرى فوصلتها في الخامس من محرم سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، وهكذا حدد أن الرحلة استغرقت منذ خروجها من بيت المقدس وعودتها إليها خمسين يوماً تقريباً.
وإذا كان (ناصر خسرو) قد فصل الحديث عن المدينة المنورة ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته الأولى، فذلك لأنه كان قادماً من الشام، وطريق الحجاج من الشام وفلسطين في ذلك الوقت، لابد وأن يمر بالمدينة قبل الوصول إلى مكة المكرمة.
في حين أنه لم يشأ أن يتحدث عن مكة المكرمة والكعبة الشريفة والمسجد الحرام إلا في حجته الرابعة وهي الأخيرة، حيث كان في كل مرة يجمع بعض المعلومات ويدونها ويستوثق من صحتها، حتى أتيحت له الفرصة في رحلته الرابعة لأن يقيم بمكة لستة أشهر كاملة، فكان حديثه عن الأماكن المقدسة والمشاعر الدينية في كل من مكة وعرفات ومنى والمزدلفة وغيرها حديث خبير، عايش الأماكن وانفعل بها أكثر من مرة، لذا جاء وصفه لهذه الأماكن نابضاً بالحياة كأنه يحدث اليوم، ولم يتغير منه شيء إلا في المواصلات والعديد من التيسيرات التي قدمتها المملكة العربية السعودية، وما زالت تقدمها، لحجاج بيت الله الحرام وعماره، وكذلك ما أدخلته على المسجد الحرام من توسعات حتى يستوعب الأعداد المتزايدة من الحجاج في كل عام.
أشار ناصر خسرو إلى أن رحلتيه الثانية والثالثة كانت عن طريق السويس وجبل الطور عبوراً ببحر القلزم (البحر الأحمر)، وأن رحلته الثانية توجهت إلى المدينة المنورة أولاً ثم سافرت بعد ذلك إلى مكة المكرمة، في حين أن رحلته الثالثة قد توجهت إلى مكة مباشرة، هذا ما يحدث مع الحجاج المصريين حتى اليوم، فمن يسافر منهم براً أو بحراً أو جواً قبل أداء الحج بفترة كافية، فإنهم يقصدون المدينة المنورة ليزوروا مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وبقية الأماكن المقدسة هناك، وعندما يقترب موعد الحج يتوجون إلى مكة المكرمة للقيام بجميع شعائر الحج، أما من يسافر في أوائل ذي الحجة، فإنهم يقصدون مكة مباشرة، وبعد انقضاء مناسك الحج بدءاً من اليوم الثاني عشر من ذي الحجة، يبدأ توافدهم على المدينة المنورة.
أما رحلته الأخيرة فقد كانت عن طريق بحر القلزم (البحر الأحمر) كذلك، ولكنه بدأها من مدينة أسوان متوجهاً شرقاً إلى شاطئ البحر الأحمر (ولعله يقصد سفاجا) ومن هناك ركب الباخرة إلى جدة، ونحن نعرف أن مدينة سفاجا المصرية يربطها بميناء جدة السعودي خطوط ملاحية منتظمة الآن، وذلك تيسيراً على حجاج الصعيد وعماره وكذلك العاملين المصريين الذي يعملون في دول الخليج عامة. وقد يشاركهم هذا الطريق بعض الحجاج القادمين من وسط أفريقيا، الذين يفضلون الطريق البحري بين مينائي سفاجا وجدة، اختصاراً للتكاليف وكذلك دون تحمل العناء في الوصول إلى القاهرة والسفر من مينائها الجوي، أو إلى السويس والإبحار من مينائها البحري.
ومن الملاحق أن ناصر خسرو لم يكن يكتفي بوصفه للأماكن المقدسة فقط، بل كان حريصاً على أن يصف المكان الذي يزوره بمبانيه وأسواقه وفواكهه، ومما قاله في ذلك:
.. إذا نزل الساعي من المروة في نهاية السعي، فإنه يرى سوقاً كبيراً، وفي هذا السوق أحصيت عشرين دكاناً للحلاقة، وتعتبر هذه الدكاكين امتداداً لسوق كبير يقع شرق المسجد الحرام يقال له (سوق العطارين) وهو سوق كبير غاية في الجمال، وأكثر ما يباع فيه الأدوية والعقاقير الطبية والأعشاب.
ومما قاله عن الفواكه في مكة:.... وقد أثمر العنب في الخامس عشر من فروردين (مارس/إبريل) فأحضر من السواد إلى مكة وبيع في السوق، وكان البطيخ كثيراً في أول أرديبهشت (أبريل/مايو)، كما كانت الفاكهة متوفرة طوال الشتاء ولم تنقطع قط.
وهكذا كان ناصر خسرو يقدم وصفاً حياً للمكان وما به من حركة وحيوية، مما يجعل الكتاب مرجعاً هاماً لحياة أهل الحجاز في منتصف القرن القرن الخامس الهجري، إلى غير ذلك من الملاحظات التي يزخر بها الكتاب.
الرحلة الثانية سفرنامه سيف الدولة المعروف باسم سفرنامه مكة قام بهـذه الرحلة (الأمير) سيف الدولة سلطان محمد بن فتحعلي شاه القاجارى وقد قام بهذه الرحلة عام 1279هـ، وقد قال في مقدمة الرحلة مبيناً.
أسباب تسجيله لها:
يكتنف هذه الرحلة العديد من الشدائد والصعاب، لذا يحسن تسجيل هذه الرحلة لعل وصف ما يكتنفها من أحوال ومصاعب يكون دليل طريق للمسافرين براً أو بحراً ويكون باعثاً على توفير الإعداد الجيد والاستعداد التام، مما يوفر المزيد من الراحة لمن يقدمون عليها... لذا ما أن عزمت على القيام بالرحلة، نما إلى خاطري أنه من الأفضل أن أقدم شرحاً مختصراً عن هذه الرحلة، وأن أذكر أحوال وما تتصف به جميع الولايات والأماكن التي سبق أن طوفت بها، لذا أطلقت على هذه الرحلة اسم (دليل المسافرين)، ونتيجة لأن أيام السفر عادة ما يكتنفها الاضطراب، فقد قالوا في العربية: (المسافر كالمجنون)، على أن يعلم الجميع أنه لم يكن القصد من هذه الأوراق الرغبة في استعراض القدرة على الكتابة، وتدبيجها، وكل ما آمله دعوة كل من يطلع على هذه الأوراق أن يتذكرني بالخير ويدعو لي!
بدأ سيف الدولة برحلته من العاصمة طهـران، حيث كان يقيم، لذا حرص على أن يتحدث عن طهران ويعرف بأهم أحيائها وثكناتها، وبعد أن أنهى الحديث عن عاصمته توجه غرباً حيث وصل إلى قزوين ومنها إلى رشت وانزلى، وكان حريصاً على تقديم بعض الشروح لكل هذه الأماكن، وبعد ذلك توجه صوب روسيا وحرص كذلك على التعريف بالمدن الروسية التي مر بها كشماخي وجنجه وتفليس وغيرها، بعد ذلك توجه إلى اسطنبول حيث تحدث عن موقعها الجغرافي وتاريخها وسكانها وجوها والزراعة فيهـا، وما بها من فواكه وكيف يكون البيع والشراء في أسواقها.
بعد ذلك أبحر إلى الإسكندرية عن طريق البحر الأبيض المتوسط، وأسهب في الحديث عن ميناء الإسكندرية، وعن أهم بناياتها وحدائقها وفواكهها، وما بها من تماثيل ومصانع.
ثم ركب القطار قاصداً مصر (القاهرة)، وتحدث عن أنواع القطارات العاملة على خطا الإسكندرية - القاهرة، وما أن وصل إلى القاهرة حتى خصها بحديث أكثر تفـصيلاً حيث تكلم عن موقعها الجغرافي وتاريخها وتقسيماتها، وخص بالذكر ميدان الأزبكية الواقع وسط العاصمة المصرية، وعن حديقته المشهورة، وعن النشاط الثقافي والتجاري الذي يحيط بهذا الميدان، كما تحدث عن الأهرامات الثلاثة، وكذلك أفرد حديثاً للنيل وبيان أهميته بالنسبة لمصر والمصريين، وكذلك تحدث عن منابعه.
وأخيراً توجه إلى السويس، حيث تحدث عن مينائها وكيفية حمل الأمتعة فيه، وعن الصعوبات التي يلاقيها المسافر عبر هذا الميناء حتى يصعد إلى الباخرة التي تستقله إلى ميناء جدة.
الوصول إلى جدة:
في يوم الجمعة الثالثة من شهر ذي الحجة رست السفينة على رصيف جدة وذلك بعد الإبحار من السويس، وقبل الوصول إلى جدة وبعد يومين من إبحارها من السويس وصلت السفينة إلى المنطقة المقابلة لمدينة رابغ (وأصلها رابق) وهنا بدأ الركاب في ارتداء ملابس الإحرام، حيث تعد رابغ ميقات الحجاج الوافدين من مصر وهي نفس ميقات أتباع المذهب الجعفري، أما ميقات الشيعة فيكون مقابل (جحفة) والتي تصلها السفينة بعد أربع ساعات من مغادرتها رابغ.
وما أن وصلت السفينة إلى حجفة، فإذا بسيف الدولة ورفاقه من الإيرانيين يجددون النية والإحرام. وميناء جدة - كما يقول سيف الدولة - يتسم بالوعورة، لذا فإن السفن ترسو فيه بصعوبة لكثرة الصخور به، لذا يلزم الحذر الشديد من قائد السفينة حتى لا تجنح منه أو تتحطم فوق الصخور.
وجدة مينا مكتظ وجوه حار، والمدينة تقع بمحاذات شاطئ البحر، وهي قليلة الزرع، ومع هذا ففيها العديد من الآبار التي يخزنون فيها مياه الأمطار لاستخدامها بعد ذلك، وعماراتها من الأجر، وسكانها عرب، وإن وجد بها بعض الأجانب الذين قصدوا جدة من أجل التجارة.
من جدة إلى مكة:
الطريق من جدة إلى مكة المعظمة يحتاج إلى مسير خمس عشرة ساعة، في كل ساعة من الرحلة توجد مقهى ونزل معد لاستقبال الحجاج والعمار للراحة والتزود بالمؤن والمياه، ومزود كذلك بالدواب والمطايا التي قد يستأجرها البعض لمواصلة الرحلة، وبعض هذه النزل يقيم فيها نفر قليل يقومون بخدمة الوافدين، عدا ثلاثة تجمعات توجد بها أعداد من السكان جميعهم عرب، منازلهم من الطوب اللبن، وإن كان بعضهم يسكن الخيام، وجميع هذه الأماكن المأهولة تعتمد على مياه الأمطار، وإن وجد في ثلاثة أماكن أو أربعة منها آبار، حيث يأخذ السكان المقيمون وكذا المسافرون حاجتهم من هذه المياه.
وفي الصحراء الواقعة بين جدة ومكة، تنمو الأعشاب التي تتغذى عليها الحيوانات في مرعيين أو ثلاثة، وفيها أيضاً تكثر الأشجار الشوكية الصغيرة منها والكبيرة، وهذه الأشجار تزهر وروداً صفراء وأحياناً بيضاء، ومعظمها ذات روائح ذكية قريبة من عطر البنفسج، ويقول سيف الدولة معلقاً على هذه الأشجار:
وقد رأيت في هذا الطريق شجرة عجيبة كبيرة فروعها غاية في الدقة والخضرة وهي شبيهة بأشجار الياسمين الأبيض ولكنها لا تورق، وتنتج ثماراً دقيقة أرجوانية اللون.
وفي الطريق من جدة إلى مكة مررنا بقبر حضرة حواء، أما معظم الوقت فقد كان مسيرنا بين جبلين، وكانت الصحراء وعرة، والطريق في معظمه مكسو بالرمال، وقد لاحظنا أن الجبال القريبة من مكة عظيمة السواد.
مكة:
مدينة مكة مدينة كبيرة عامرة، تحيط بها الجبال من كل جوانبها، وأماكنها الأهلة بالسكان تتوسط عدة وديان، وتقع الكعبة وسط واد فسيح تحيط به الجبال كذلك من كل أطرافه، وجوها حار، وسكانها معظمهم تجار يجلبون بضائعهم من مصر والشام والعراق والهند، أما مياهها فمن برك وقنوات جوفية.
وعماراتها من الأحجار المنحوتة، ويرتفع بعضها إلى خمسة أو ستة طوابق، سكانها من العرب وإن وجدت معهـم جاليات من الهنود والبخاريين والأتراك، وهم يسكنون معاً متجاورين. وتفد إليها ما تحتاجه من بقول وفواكه من الطائف، وفي أطرافها بضع أشجار سدر ونخيل، ويوجد بها سوق وحمام، شوارعها وأزقتها ضيقة ومكتظة، وأردية أهل مكة خليط من الملابس العربية والهندية، ويصل عدد سكانها إلى مائة ألف نسمة، أشرافها غاية في الثراء والاحترام، ومفتاح الكعبة في يد زعيم قبيلة بني شيبة. وبمكة المكرمة يتواجد الجنود العثمانيون، وجنود هذه الحامية خليط من المشاة والخيالة والمدفعية.
وأهل مكة معفون من دفع الضرائب، كما أنهم لا يجندون، ولا تحصل منهم جمارك على وارداتهم، إذ أنهم معفون من جميع التكاليف الحكومية، وفي كل سنة خلال موسم الحج يتولى أمين الصرة توفير النقود والبضائع المطلوبة للسكان على حساب الدولة. وأسعار المأكولات على الدوام مرتفعة وبخاصة في موسم الحج. وفي الصيف لا يبقى من سكانها أحد بداخلها عدا من يقومون بخدمة الحجاج والمعتمرين، أما الباقون فيهرعون إلى الطائف وغيرها من الأماكن الأقل ارتفاعاً في حرارتها، والطائف منطقة جبلية مرتفعة، وبها العديد من الأنهار الجارية وتكثر بها الحدائق، ومعظمها مثمر وبطيخها جيد، ورمانها متميز كذلك.
وصف بناء الكعبة والمسجد الحرام:
بناء المسجد من الحجر المنحوت، طوله أربعمائة قدم أما عرضه فهو ثلاثمائة قدم، ومساحة المسجد مربعة، وأطرافه مستقيمة، وقد مهدت ورصفت الأماكن المحيطة بالمسجد والشوارع المؤدية إليه. وذلك بالأحجار المصقولة والمنحوتة، وفي الأركان الأربعة من المسجد توجد أربع منازل غاية في الارتفاع، وفي أحد جوانب المسجد أقيمت مدرستان لتعليم الطلاب، وينفتح المسجد على المدينة بأربعين باباً، كما أن بعض العمائر المطلة على المسجد تفتح نوافذها على المسجد، ومعظم المنازل الواقعة على الجبال والمرتفعات بمكة يمكن رؤيتها من المسجد.
بناء الكعبة:
الكعبة تتوسط المسجد وهي مربعة الشكل، بنيت من أحجار بعضها تم نحته وصقله وبعضها وضع دون صقل وتشذيب، لها باب صوب طاق بني شيبة صنع من الفضة، ويرتفع عن الأرض بمقدار ذراعين.
ويقع حجر إسماعيل في الطرف الآخر (شمالي الكعبة) وذلك أسفل مزراب الرحمة، وقد بنى هذا المكان من الحجر المرمر حتى يتحمل سقوط المياه من المزراب فوقه.
أما مقام إبراهيم فيقع في الجهة التي يقع بها طاق بني شيبة، وفيه ضريح من الحديد، ووسط الضريح صندوق مقابل للحجر الأسود.
وفي مواجهة باب الكعبة يوجد طاق من الحجر الأسود، هو طاق بني شيبة، وقبل إنه قبل توسعة المسجد، كان هذا الطاق عبارة عن باب المسجد، ولكن بعد توسعة المسجد، أزيلت حوائط هذا الطاق وجدرانه وبقي الطاق مكانه.
وفي مقابل حجر إسماعيل يقع بئر زمزم، وقد أقاموا فوقه بناية وكأنها دار للسقاية، ومياه البئر مالحة بعض الشيء. وعلى قربة من البئر توجد بنايتان إحداهما (دار الساعة) والأخرى للمكتبة.
وفي الجهات الأربع للكعبة توجد أربع بنايات تحيط بالمسجد وكأنها باقة ورد كبيرة، هذه البنايات هي أركان المذاهب الأربعة: الشافعي والحنفي والمالكي والحنبلي، والمسجد بهذا الاتساع وتلك العظمة، ومعه البنايات المحيطة به تكون تجمعاً مقدساً غاية في العظمة والفخامة ولا مثيل له.
كسوة الكعبة:
في كل سنة تأتي الكسوة الخارجية المصنوعة من الحرير الأسود من مصر، أما الكسوة القديمة، فكانت تقطع إلى قطع، وتهدى إلى الملوك والأشراف وخدام البيت، أما الكسوة الداخلية المصنوعة من الحرير الأحمر والمطرزة أطرافها بالورود، فكانت تأتي من اسطنبول، بينما تحمل الكسوة السابقة إلى خزانة السلطان العثماني على سبيل البركة، ولا يستطيع أحد أن يتصرف فيها.
وضع الحرم:
داخل الحرم كانت توجد شمعدانات كبيرة مصنوعة من الذهب والفضة وبها شموع بيضاء تجلب من اسطنبول، وحول المسجد - حيث كانت حدوده القديمة - نصبت أعمدة خشبية ونحاسية علقت فيها قناديل بلورية بسلاسل فضية، كما علقت قناديل بأطرا