بوابة الحرمين الشريفين
مكانة الحرمين الشريفين عند المسلمين
مكانة الحرمين الشريفين عند المسلمين

مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، فيسر لنا أمورنا، واختم لنا بالسعادة، إنك على كل شيء قدير.
أما بعد، فإن الحديث عن المدينتين المقدستين المكرمتين المنورتين يحلو، بقدر محبة المتكلم عنهما لهما. كيف لا وهما بلدتا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فالأولى: مولده وخلقه ونشأته.
والثانية: مهاجره ومضجعه، عليه وآله الصلاة والسلام، ولهما من الفضائل ما لا يوجد لبلد آخر متفرقاً أو مجتمعاً، وهما مهوى أفئدة المؤمنين على مر العصور.
وذلك أن مكانة الشيء إما أن تكون من ذاته؛ بما اتصف به من كمال وجمال... أو بما يحيط به، أو يجاوره... أو بما ورد عنه من فضيلة... الخ، وهكذا كانتا حيث ورد فيهما الكثير لذاتهما، وما فيهما، وبما حل فيهما. فكلاهما حرم، وحرم آمن، وكلاهما بلد صدق، حرمهما الله تعالى، ولم يحرمهما الناس، وأظهر الله تعالى تحريمهما على لسان النبيين الكريمين، والرسولين المبجلين، أب الأنبياء، وخاتم الرسل عليهما وعليهم الصلاة والسلام مدينتان حلت فيهما البركة، فحرسهما الله تعالى بالملائكة الكرام، وهما أحب المدن إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، جعل الأولى مولد النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ومحل نشأته ومبعثه، وجعل الثانية مهاجره ومضجعه، جعل في الأولى أول بيت وضع للناس، وفي الثانية آخر مساجد الأنبياء عليهم السلام.
اختار الله تعالى الأولى لمكان بيته، واختار الثانية لمسجد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فحددهما وعينهما، أمر الناس بالحج إلى الأولى، وبالهجرة إلى الثانية، فكانت في حياته صلى الله عليه وآله وسلم قبل الفتح واجبة، وصارت بعده مندوبة.
دعا للأولى إبراهيم عليه السلام، وللثانية أكرم ولده صلى الله عليه وآله وسلم، جعل القلوب تهوي إليهما، بدعوتيهما عليهما السلام.
مدينتان اضطربت الجبال فيهما تحت قدمي رسوله وصفيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وحن في الثانية الجذع شوقاً إليه، وسلم الحجر والشجر والجبل في الأولى عليه، صلى الله عليه وآله وسلم، وأشبع العدد الكثير فيهما القليل من طعامهما.
مدينتان ضوعف أجر الصلاة فيهما، وشذ الرحل إليهما، وفي ماء الأولى وتراب الثانية وتمرها الشفاء، وبعض أجزائهما من الجنة، ويئس الشيطان أن يعبد فيهما، وجعل رزقهما من ثمرات الأرض، وحرم دخول الكفار إليهما، ومنع الدجال منهما.
مدينتان تشرفتا وأهلهما برسوله صلى الله عليه وآله وسلم، خرج من الأولى إلى الثانية مهاجراً، ثم عاد إليها فاتحاً، وكله رحمة، لذا حث على الموت فيهما، ومن مات فيهما بعث من الآمنين، وأهلهما أول من يحشر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأول من يشفع لهم صلى الله عليه وآله وسلم.
مدينتان جعلهما الله تعالى حرماً آمناً، فحرم الصيد وتنفيره فيهما، وحرم قطع الشجر والكلأ فيهما، وحرم التقاط لقطتهما، وحرم حمل السلاح للقتال، وسفك الدماء فيهما. لا يختلى خلاهما، ولا ينفر صيدهما، ولا تلتقط لقطتهما.
للملحد فيهما أشد العقوبة، ولمن آذى أهلهما النكال، فأهل الأولى هم أهل الله تعالى، وأهل الثانية جيران رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحق على الأمة: إكرام جيرانه صلى الله عليه وآله وسلم.
هما آخر البلاد، حرم على غير المسلمين غزوهما، ومنعهما من الجبابرة، فتناثر أصحاب الفيل بالطير الأبابيل، وغرقت الحملات الصليبية في البحر الأحمر قبل وصولهما، وسيخسف بالجيش الغازي في آخر الزمان بفضل من الله ومنه.
جعلهما سبحانه مدخل صدق ومخرج صدق:
إن من عظم مكانة الحرمين الشريفين أن جعل الله سبحانه وتعالى مكة المكرمة مخرج صدق، وجعل المدينة المنورة مدخل صدق، لكن قدّمه في الذكر لأهميته، فقال جل شأنه: ((وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)) [الإسراء:80].
وقد قال الله سبحانه وتعالى هذه الآية عقب قوله تعالى ((وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قليلاً)) [الإسراء:76].
والذين كادوا يستفزونه من الأرض ليخرجوه منها: هم المشركون من أهل مكة، ولذا توعدهم الله عز وجل، فلم يلبثوا إلا قليلاً، حتى جاءهم القتل يوم بدر، وهذه سنة الله تعالى في الرسل السابقين، حين يفعل أقوامهم كذلك.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه ((وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)) [الإسراء:80] رواه أحمد والترمذي والحاكم- وصححاه- وغيرهم.
فقد جعلهما الله تعالى كلاهما بلد صدق، وإن كان أهل الأولى قد عذبوه وآذوه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، لذا سأل صلى الله عليه وآله وسلم سلامة المدخل- لبيان الأهمية حيث قدمت في الذكر قبل سلامة المخرج، ولذا جاءها صلى الله عليه وآله وسلم بعد سنوات قليلاً فاحاً، لكنه كان صلى الله عليه وآله وسلم مسامحاً صافحاً مطهراً،... (فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
كلاهما حرم: ومن عظم مكانتهما ورفعة شأنهما؛ أن جعل الله سبحانه وتعالى كلاً من مكة المكرمة والمدينة المنورة حرماً. وقد استوعبت النصوص- وهي متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم- في "فضائل المدينة المنورة"، وفي "فضائل مكة المكرمة" وأرجو الله تعالى إتمامه على خير ليلحق أخاه.
وقد وردت نصوص تحريم مكة المكرمة في القرآن الكريم، وفي الأحاديث المتواترة أيضاً، كما تواترت النصوص في تحريم المدينة المنورة - كما قلت- حيث رواها بضع وعشرون صحابياً، وبروايات متعددة- عدا المراسيل- في الصحيحين وغيرهما.
ومن تلك النصوص:
قال الله تعالى ((إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [النمل:91].
كما ورد لفظ "المسجد الحرام " في خمسة عشر موضعاً، إضافة إلى لفظ "البيت الحرام " في موضعين. والمراد: الحرم، لا خاص المسجد في أغلب النصوص، والله تعالى أعلم.
ومن النصوص التي فيها بيان تحريم البلدتين، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة، ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة.." متفق عليه، من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
"اللهم إني أحرم ما بين جبليها، مثل ما حرم به إبراهيم مكة... " متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه.
{اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرماً، وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها} رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
{إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها} رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
إلى غير ذلك من النصوص.
كلاهما حرم آمن:
ومن عظيم مكانتهما ورفعة قدرهما؛ أن جعل الله سبحانه وتعالى المدينتين المكرمتين حرماً - كما سبق ذكره- وجعل هذا الحرم آمناً. فجاء عن الأولى في القرآن الكريم، في معرض المن من الله تعالى على أهلها. وجاء عن الثانية في السنة الصحيحة.
قال الله تعالى: ((وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)) [القصص:57]
وقال جل شأنه: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)) [العنكبوت:67].
((أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)) [العنكبوت:67].
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: {أهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى المدينة، فقال: (إنها حرم آمن)} رواه مسلم.
تحديد الحرم فيهما:
ومن عظيم فضلهما؛ أن حدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدود حرم المدينة المنورة، أما مكة المكرمة فقد جدد صلى الله عليه وآله وسلم- بعد الفتح- معالم حرمها، لأن حدود الحرم كانت معلومة من قبل، حيث وضعها إبراهيم عليه السلام، يعلمه بها جبريل عليه السلام.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:}...إني أحرم ما بين لابتيها...} متفق عليه.
واللابتان هما الحرتان الشرقية والغربية.
والنصوص في هذا الباب كثيرة.
وأما تحديدها من الشمال إلى الجنوب.
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً...} متفق عليه واللفظ لمسلم.
وأما تحديد الحرم المكي:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث تميم بن أسد الخزاعي يجدد أنصاب الحرم، وكان إبراهيم- عليه السلام- وضعها، يريها إياه جبريل عليه السلام. رواه أبو نعيم وابن سعد وابن أبي عمر وحسنه الحافظ في الإصابة، وقال البوصيري- كما في حاشية المطالب: رجاله ثقات- ورواه البيهقي في الدلائل بنحوه، والأزرقي في أخبار مكة.
1- عظم حرمتهما:
إن مكة المكرمة كانت معلومة الحرمة في الجاهلية وصدر الإسلام، ولم تكن المدينة المنورة معلومة بذلك حتى في ابتداء الهجرة، بل إلى منتصف المدة المدنية تقريباً، كل الذي كان معلوماً عنها: أنها مهاجر نبي، يبعث في آخر الزمان، لذا فهي إسلامية التحريم ظاهراً، ولكنها كأختها قديمة التحريم.
إن تحريم مكة كان قبل إبراهيم عليه السلام، بدلالة قوله تعالى على لسانه عليه السلام ((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)) [إبراهيم:37] وقد قال هذا عندما ترك ابنه إسماعيل وأمه هاجر، ثم رجع، يريد الشام، فوقف عند الثنية، واستقبل البيت، وكان إذ ذاك مرتفعاً كالرابية، تأتي السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، فدعا بهذه الدعوات، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عند البخاري( ).
وإن كان يمكن القول بأن الله سبحانه وتعالى أطلعه على حرمتها قبل مجيئه إليها من الشام، فقال ذلك بناء على علمه، وهذا- إن كان- يدل على قدم تحريمها أيضاً، والله تعالى أعلم.
ثم إن إبراهيم عليه السلام بعد بنائه البيت مع ولده إسماعيل عليه السلام أعلن تحريم مكة، ودعا ربه تعالى أن يجعله بلداً آمناً، فاستجاب الله تعالى له.
قال الله تعالى: ((وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) [البقرة:125] ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ)) [البقرة:126] وقال جل شأنه: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ)) [إبراهيم:35].
ففي الآية الأولى طلبان: البلدية، والأمن، وفي الثانية طلب واحد وهو الأمن. وكلاهما قد حصل، والله تعالى أعلم.
وبعد إعلان إبراهيم عليه السلام تحريم مكة. فهم أحفاده- من ولد إسماعيل عليه السلام- وأخوالهم من بني جرهم ذلك. وتناقل الناس الخبر، ودعا الناس إلى حج البيت، كما قال تعالى: ((وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) [الحج:26] ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)) [الحج:27] ((لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)) [الحج:28] ((ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)) [الحج:29].
ومع تغير الظروف والأحوال، سواء في مكة- من زوال سيطرة الجرهميين، من، بعد أولاد إسماعيل، واستيلاء الخزاعيين، ومن بعدهم من مضر...- أو خارج مكة، بقيت حرمة مكة في نفوس الجميع بالمكانة العالية، لا يباح فيها قتال، ولا يسفك فيها دم، ولاتنتهك فيها حرمة، حتى أحجارها وشجرها... وإن كان لا يخلو من هفوات وانتهاكات.
ولما سيطر عمرو بن لحي الخزاعي على مكة، وبدل في المعتقد، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأكثم بن أبي الجون: {رأيت عمرو بن لُحي يجر قصبه في النار، لأنه أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، وبحر البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي} الحديث رواه ابن إسحاق وابن أبي عاصم والطبراني والطبري والحاكم- وصححه وأقره الذهبي-... وأصل الحديث متفق عليه.
وكذا ابتدع أهل مكة بعد ذلك أموراً، مغيرين بذلك دين إبراهيم عليه السلام؛ من اختراع الحمس، والطواف لغير أهل مكة عراة، وعدم وقوف أهل مكة في عرفات... إلى غير ذلك مما اخترعوه، ومع هذا فقد استجاب الناس لهم، لكن بقيت حرمة مكة قائمة في نفوسهم. وكذا أهلها أيضاً.
ولما جاءت حادثة الفيل التي تحدث عنها القرآن الكريم ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)) [الفيل:1] ((أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ)) [الفيل:2] ((وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ)) [الفيل:3] ((تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ)) [الفيل:4] ((فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)) [الفيل:5].
عظمت مكة في نفوس العرب، وازدادت مكانتها رفعةً، خاصة بعدما علموا عن سبب هذه الحملة الشرسة، كما عظمت مكانة أهل مكة، وخاصة عبد المطلب الذي لم يخرج من مكة، حيث عظمت مكانته عند أهل مكة با لذات.
ولما جاء الإسلام، وجاء جيش المسلمين ليفتح مكة، وسمع أبو سفيان مقالة سعد بن عبادة رضي الله عنهما: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة،... فلما مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: "ما قال؟ " قال: قال كذا وكذا، فقال: " كذب سعد، ولكن هذا يوم يُعظمُ اللهُ فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة" رواه البخاري.
ولهذا لم تتغير حرمتها، ولم تبح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سوى تلك الساعة، وهي ساعة الفتح، ليزول الشرك منها إلى غير رجعة، ولتصبح بلداً إسلامياً. فعظمت حرمتها بعد الإسلام، وارتفعت مكانتها من جديد، بما بينه صلى الله عليه وآله وسلم، وشرعه، وما نزل في كتاب الله تعالى من بيان حرمتها، وعظم مكانتها، ورفعة قدرها، ووجوب تعظيمها، وعقوبةِ مستحل ذلك، في الدنيا والآخرة، فلم تزدد الكعبة إلا تعظيماً، ومكةُ إلا حرمةً وتبجيلاً، ليكون مصداق قوله تعالى ((وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)) [البقرة:125].
أما المدينة المنورةُ النبويةُ، فهي تالية لها في التحريم، لأن مكة سابقة لها في التحريم، لسبق إبراهيم عليه السلام في الزمان، وتحريم المدينة لاحق، لتأخير النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الوجود، إذ بينهما عليهما السلام مئات السنين.
ولا يعرف عن المدينة قبل الهجرة إليها كثيرُ خبر، إلا ما كان من علامات بعثته صلى الله عليه وآله وسلم أنها مهاجرُه، وهذا ما جاء في الكتب السابقة، كما في حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، والذي فيه "قال- أي صاحب عمورية-: فإنني والله ما أعلم أحداً على ما كنا عليه من الناس آمرُك أن تأتيه، ولكن قد أظلك زمان نبي، هو مبعوث بدين إبراهيم - عليه السلام- يخرج بأرض العرب، مهاجرُه إلى أرض بين حرتين، بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل... "رواه أحمد والطبراني والبزار برجال الصحيح.
ولهذا رجع تُبع الحميريُ عن قصده خراب المدينة- بعد مقتل ولده- عندما أخبره حبران من كبار أحبار يهود بأنهم يجدونها في كتابهم كبيرةً، وأنها مهاجرُ نبي من ولد إسماعيل يخرج من هذه البنية- يعني البيت الحرام- فكف تبع ومضى.
فلما جاء الإسلام أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكانة المدينة، وحرمها وفضلها وسكناها، وعقوبة من أرادها أو أهلها بسوء. والحث على سكناها، والموت فيها،... إلى آخر ما جاء في فضلها. وكذا بين صلى الله عليه وآله وسلم مكانة مكة، وفضلها، وتحريمها، وحرمها، وسكناها، وعقوبة من أرادها أو أهلها بسوء... إلى آخر ما جاء في فضلها.
فصارتا أفضل بقاع الأرض قاطبة، وأعز بقاع الأرض قاطبة، وأكرم بقاع الأرض قاطبة،- وكل ذلك بالإجماع- ولم يرد في غيرهما ما ورد فيهما.
الله تعالى هو المحرم لهما:
ومن عظم مكانتهما ورفعة شأنهما؛ أن الذي جعل المدينتين الكريمتين محرمتين هو الله تعالى، ولم يحرمهما الناس، وإنما أظهر الله سبحانه وتعالى تحريمهما على لساني نبييه الكريمين صلوات الله وسلامه عليهما، حيث أظهر الله تعالى تحريم مكة على لسان إبراهيم عليه السلام، وأظهر تحريم المدينة على لسان نبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فإذا أضيف التحريم إليهما عليهما الصلاة والسلام فلأنه أظهره سبحانه وتعالى على لسانيهما. كما سبق بيانه، والله أعلم.
ففي حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم فتح مكة: {إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة...} الحديث متفق عليه.
وفي حديث أبي شريح العدوي رضي الله عنه، أنه قال لعمرو بن سعيد [الأشدق] - وهو يبعث البعوث إلى مكة -: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به: أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: {إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً...} الحديث متفق عليه.
وأما المدينة فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {حرم ما بين لابتي المدينة على لساني}. رواه البخاري.
ورواه أحمد وابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط. - بسند البخاري - بلفظ {إن الله حرم على لساني ما بين لابتي المدينة} وورد من غير حديثه أيضا.
فا الله تعالى هو المحرم لهما. وإبراهيم ونبينا محمد صلى الله وسلم عليهما هما المظهران لذلك التحريم، وسيأتي بيان نظائر ذلك في كتاب الله عز وجل. والله تعالى أعلم.
متى صارتا محرمتين:
أعني بذلك: هل صارتا حرمين آمنين بقول النبي وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، أم كانتا حرمين آمنين قبل قول النبي وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام؟ في المسألة قولان.
الأول منهما: ما ذُكر من قوله صلى الله عليه وسلم (إن إبراهيم حرم مكة، وأنا احرم المدينة) وما شابه ذلك تدل على أنهما كانتا حلالاً قبل دعوة النبي وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام لهما، وأنهما حرمتا بدعوتيهما عليهما الصلاة والسلام.
والثاني منهما: أنهما كانتا حراماً قبل دعوة النبي وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فأظهر الله تعالى تحريم مكة على لسان إبراهيم - عليه السلام -، وتأخر التكليف به حتى أظهره الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، بالنسبة للمدينة، وفي هذا دليل كمالها، حيث ادخر الله تعالى ذلك، حتى جعله على لسان أشرف المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، كما هو الحال في تحريم مكة، حيث كان قديما منذ خلق الله السموات والأرض، ثم أظهره سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام.
وأضيف التحريم إليهما: لأنه لم يعرف إلا في زمانهما.
ونظير ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ)) [الزمر:42[بينما قال سبحانه في آية أخرى: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ)) [السجدة:11[وقال في آية ثالثة: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ)) [النحل:28[فأضاف إليه تعالى التوفي؛ وذلك هو الحقيقة، بينما أضاف في الثانية لملك الموت، وفي الثالثة للملائكة لأنه ظهر على أيديهم، والله تعالى أعلم.
2- تحريم الصيد والاصطياد فيهما:
ومما يبين مكانة الحرمين، وتحريمهما؛ تحريم الاصطياد فيهما، وتحريم تنفير الصيد فيهما أيضاً، والنصوص في ذلك بالنسبة للحرمين متواترة.
فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: {إن الله حرم مكة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف...}. الحديث متفق عليه، واللفظ للبخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم مكة، قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: {إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لن تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها، إلا لمنشد...}. الحديث. متفق عليه. إلى آخر ذلك من النصوص.
وأما المدينة:
فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {إني أحرم ما بين لابتي المدينة، أن يقطع عضاهها، أو يقتل صيدها...}. الحديث رواه مسلم.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها}. رواه مسلم.
وفي حديث علي رضي الله عنه:}... ولا ينفر صيدها...}. الحديث رواه أحمد وأبو داود.، وأصله في الصحيحين.
وقوله {لا يختلى خلاها} أي النبات الرقيق ما دام رطبا، واختلاؤه:
قطعه، وإذا يبس فهو حشيش.
وقوله: لا يعضد شجرها: لا يقطع.
والعضاة: كل شجر فيه شوك، واحدتها عضاهة، وعضيهة.
لكن الشارع الحكيم استثنى من تحريم الصيد، قتل الحيوانات الضارة، وهي الفواسق، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم - كما في حديث السيدة عائشة رضي الله عنها -: {خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم (وفي رواية: في الحل والحرم): الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور}. متفق عليه. وللحديث طرق وروايات، وفي بعضها زيادات. كما أنه مروي عن غيرها أيضا، في الصحيحين وغيرهما. والله تعالى أعلم.
3- تحريم قطع الشجر وقلعه والكلأ فيهما:
وكما يحرم الصيد والاصطياد وتنفير الصيد فيهما، كذلك يحرم قطع الشجر وقلعه وحشه، وكذا الكلأ أيضاً، والمراد بالشجر الذي يحرم قطعه أو قلعه...: هو الذي لا ينبته الآدمي، وقد تواتر النص في ذلك. لكن أستثنى الشارع في كل منهما بعض الأمور، كما سأذكرها إن شاء الله تعالى. وقد مر حديث ابن عباس رضي الله عنهما - عن مكة -، والذي فيه}... لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها...}. وهو متفق عليه.
وأما عن المدينة المنورة.
فمن حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، والذي فيه {إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها...}. رواه مسلم.
ومثله حديث جابر رضي الله عنه، والذي فيه}... لا يقطع عضاهها...}. رواه مسلم.
وحديث علي رضي الله عنه، والذي فيه}... لا يختلى خلاها...، ولا تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره}. رواه أحمد وأبو داود، وأصله في الصحيحين.
وعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {المدينة حرم، من كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها}. لفظ البخاري. وفي رواية مسلم {لا يختلى خلاها، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}. متفق عليه( ). والنصوص في ذلك كثيرة.
وقد أباح الشارع الحكيم لأهل مكة الإذخر. حيث جاء في حديث ابن عباس، وكذا في حديث أبي هريرة رضي الله عنهم {فقال العباس: إلا الإذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم} وفي رواية {فإنه لصاغتنا وقبورنا} وفي أخرى {فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا الإذخر}. متفق عليه.
فكما أباح الإذخر لأهل مكة للضرورة الملحة إليه، حيث يستعملونه لقبورهم وبيوتهم، كما يستعمله الصاغة عندهم، كذلك أباح لأهل المدينة ما يقابل ذلك. وهو علف البعير، كما مر في حديث علي رضي الله عنه - عند أحمد وأبي داود، والذي فيهم {إلا أن يعلف رجل بعيره} ، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه، عند مسلم)، والذي فيه {ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف} على أن يكون هش الشجر هشاً رقيقاً، كما في حديث جابر رضي الله عنه، عند أبي داود والطبراني في الأوسط والبيهقي وحسنه الهيثمي وصححه ابن حبان. والله تعالى أعلم.
4- عقوبة الصائد وقاطع الشجر فيهما:
لما حرم الشارع الكريم الاصطياد، وتنفير الصيد، وقطع الشجر وحشه... جعل عقوبة على فاعل ذلك فيهما، وإن كان الحكم قد اختلف في البلدتين الكريمتين.
فجعل عقوبة الصائد وقاطع الشجر والكلأ في الحرم المكي أن يفدي مثل ما صاد إن كان ما صاده مثلياً، وإن لم يكن مثلياً (وهو ما لا يشبه شيئاً من النعم) فيجب فيه القيمة. وأما الشجر، فإن كانت الشجرة كبيرة ففيها بقرة أو بدنة، وإن كانت صغيرة ضمنها بشاة، وإن كانت دون ذلك فالقيمة، قياساً على الصيد في ذلك كله. وهذا مجمع عليه بين الفقهاء في جزاء الصيد، ولا خلاف عندهم في عمومه، مع تفصيلات في ضمان قاطع الشجرة، استوعبتها كتب الفروع.
وأصل ضمان الصيد قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ)) [المائدة:95]
وقال تعالى: ((ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)) [الحج:33]
وأما المدينة المنورة فالحكم فيها يختلف، حيث جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقوبة الصائد وقاطع الشجر سلبه، وذلك لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقد وجد عبداً يقطع شجراً - أو يخبطه- فسلبه، فلما كلم فيه، قال: معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 000، الحديث رواه مسلم.
وفي رواية: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرم هذا الحرم، وقال: {من رأيتموه يصيد فيه شيئاً فله سلبه} رواه أحمد وأبو داود والطحاوي وصححه النووي.
إلى غير ذلك من النصوص.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال، خلاصة آرائهم كالتالي.:
1- جمهور الشافعية - ورواية عن أحمد- وهو الذي صححه الحنابلة - وإليه ذهب ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى، واختاره ابن المنذر، وهو قول ابن نافع من المالكية، وقال القاضي عبد الوهاب: إنه الأقيس، واختاره جماعة بعدهم، ونصره ابن حزم بشدة، ذهبوا إلى وجوب الجزاء، ولكنهم انقسموا إلى قسمين.
الأول: كجزاء الحرم المكي.
والثاني: جزاؤه هو سلب الصائد وقاطع الشجر، وهو ظاهر نص الحديث، وعمل الصحابة بعده.
2- ذهب كثير من العلماء إلى عدم الجزاء، ولكنه آثم، ويلزمه التوبة والاستغفار، وهؤلاء على قسمين.
الأول: لأن حرمة المدينة عندهم أشد حرمة من مكة، وذلك كاليمين الغموس، فلا كفارة عليه، لأن ذنبه أعظم - وهذا جار على قواعد الإمام مالك رحمه الله، الذي يرى تفضيل المدينة على مكة.
الثاني: لعدم ورود نص في ذلك عندهم. وإن كانوا قد اتفقوا جميعاً على وجوب الزجر من الإمام، وهو التعزير.
وقد استوعبت هذه المسألة في (فضائل المدينة المنورة) في الباب الأول، والله تعالى المعين.
5- تحريم التقاط اللقطة فيهما:
وكما حرم فيهما الصيد والاصطياد وتنفير الصيد وقطع الشجر وحشه... كذلك حرم فيهما التقاط اللقطة. وهذا دال على التفريق بين لقطة الحل، ولقطة الحرم، فلقطة الحل تتملك بعد تعريفها سنة. أما لقطة الحرم فعلى العكس لا تتملك أبداً، وذلك ليتم الأمن في أوسع صوره.
وفي حديث ابن عباس: {ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف...} الحديث متفق عليه.
وكذا مر حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والذي فيه {ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد...} متفق عليه.
وأما عن المدينة فقد مر حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والذي فيه {إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة... لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها...} الحديث رواه أحمد وأبو داود والبيهقي، وأصل الحديث في الصحيحين، كما مر.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {لكل نبي حرم، وحرمي المدينة، اللهم إني أحرمها بحرمك... لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا تؤخذ لقطتها إلا لمنشد...} الحديث رواه أحمد وابن الجعد وابن جرير وأبو نعيم بإسناد حسن.
وقد اختلف الفقهاء في لقطة الحرمين على أقوال، هل هي كلقطة الحل، أم تختلف؟ وهل لقطة الحرمين سواء؟ كل ذلك موضع خلاف، وقد بينت ذلك في (فضائل المدينة المنورة) فارجع إليه إن شئت. والله تعالى أعلم.
6- تحريم حمل السلاح والقتال وسفك الدماء فيهما:
ومن عظم مكانة هاتين المدينتين الكريمتين؛ تحريم حمل السلاح لقتال فيهما، وتحريم سفك الدماء فيهما أيضاً، وفي هذا أمان للإنسان المقيم فيهما، وكيف لا يكون كذلك: وقد أمن الطير والحيوان فلا يصادا، والنبات والشجر فلا يقلعا أو يقطعا، والساقط فلا يحمل إلا لمعرف أو منشد... وكل هذا دلالة على الأمن والأمان فيهما، والله تعالى أعلم.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {لا يحل لأحدكم أن يحمل السلاح بمكة} رواه مسلم.
إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، ولا يعضد فيها شجرةً، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها، فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله، ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ليبلغ الشاهد الغائب} متفق عليه.
وأما المدينة:
ففي حديث أبي سعيد رضي الله عنه. قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: {اللهم إن إبراهيم حرم مكة، فجعلها حرماً، {وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال...} رواه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: {المدينة حرم من كذا إلى كذا...} الحديث، زاد حميد فيه {لا يحمل فيها سلاح لقتال}. رواه مسلم، وهذه اللفظة هي رواية أحمد وابن زنجويه.
لكن لو بغى أناس فيهما، أو أهلهما هل يقاتلون؟ على قولين.
ا- يضيق عليهم حتى يخرجوا إلى الحل، أو يفيئوا إلى الطاعة، وهو قول لبعض الفقهاء.
2- الجمهور من العلماء ذهبوا إلى قتالهم، لأن هذا القتال - قتال البغاة- من حقوق الله تعالى، التي لا يجوز إضاعتها، وحفظها في الحرم أولى، والحرم لا يعيذ عاصياً. وهذا هو الذي تعضده النصوص، وهو الأشبه بالصواب، والله تعالى أعلم.
والمانع هو نصب الحرب عليهما كما ينصب على غيرهما، أما رد باغ عن بغيه، فهذا جائز، لكن إن أمكن إرجاعهم بدونه كان أولى، ولا يستعمل الأشد إذا أفاد الأخف، والله تعالى أعلم.
وأما حمل السلاح فيهما؛ فقد قال ابن رسلان رحمه الله عند قوله صلى الله عليه وآله وسلم... كما في سنن أبي داود {لا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح}: هذا محمول عند أهل العلم على حمل السلاح لغير ضرورة، ولا حاجة، فإن كانت حاجة جاز. ا هـ.
وبنحوه قال الشوكاني في نيل الأوطار. والله تعالى أعلم.
7- كثرة الأسماء لهما:
لا أعلم لبلد من البلاد ما للمدينة ثم مكة من كثرة الأسماء لهما، وهذا يدل على زيادة شرفهما وفضلهما، لأنه كلما شرف الشيء كثرت أ سماؤه.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: لا يعرف في البلاد أكثر أسماء منها- أي المدينة - ومن مكة.
وقد جمعت ما للمدينة من الأسماء فزادت على مائة اسم؛ وبالتحديد بلغت (115) مائة وخمسة عشر اسماً، أما مكة المكرمة فلم أحص ما لها من الأسماء بعد، ولعلي أجمع ذلك قريباً في الكتاب المعد لها، إن شاء الله تعالى.
فمن أسماء مكة المكرمة التي وردت في القرآن الكريم.:
- بكة، لقوله تعالى: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا)) [آل عمران:96].
- مكة، لقوله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ)) [الفتح:24].
- البلد، لقوله تعالى: ((لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)) [البلد:1] *((وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ)) [البلد:2]
- البلد الأمين، لقوله تعالى: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ)) [التين:1] *((وَطُورِ سِينِينَ)) [التين:2] *((وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ)) [التين:3]
- القرية، أو قريتك، لقوله تعالى: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ)) [محمد:13].
- مخرج صدق، لقوله تعالى: ((وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ)) [الإسراء:80].
- أم القرى، لقوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)) [الشورى:7].
- البلدة، لقوله تعالى: ((إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا)) [النمل:91].
- المعاد، لقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)) [القصص:85]. كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
إلى غير ذلك من أسمائها.
وأما أسماء المدينة فكثيرة أيضاً:
ومنها:
القرية، تأكل القرى. لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: {أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون: يثرب وهي المدينة، تنفي الناس، كما ينفي الكير خبث الحديد} متفق عليه من حديث أبي هريرة. رضي الله عنه.
طابة، طيبة، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: {هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه} متفق عليه، من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.
وفي حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: {إنها طيبة، تنفي الخبث، كما تنفي النار خبث الفضة} متفق عليه.
وهي الدار، والإيمان، لقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)) [الحشر:9]
البحيرة، البحرة، لحديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما في قصة ابن أبي بن سلول، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه، واصفح عنه، فوالذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، {ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه...} الحديث متفق عليه.
الدرع الحصينة، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في رؤيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، والذي فيه {ورأيت أني في درع حصينة، فأولتها المدينة...} الحديث رواه أحمد والبيهقي بإسناد صحيح. وروى الترمذي - وحسنه - وابن ماجه، أوله، وعزاه الحافظ للنسائي والطبراني والحاكم وصححه.
دار الهجرة، دار السنة، دار السلامة: وذلك لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، في حديث عمر رضي الله عنه عن قصة السقيفة، وفي آخره: فقال عبد الرحمن - (يعني ابن عوف) - رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، إن الموسم يجمع رعاع الناس، وغوغاءهم، وإني أرى أن المدينة تنفي خبثها تمهل، حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة والسلامة...} الحديث رواه البخاري.
إلى غير ذلك من أسمائها.
ولا يجوز تسميتها يثرب، فمن قال لها: يثرب، يلزمه الاستغفار، لأنه ارتكب ذنباً. وذلك لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله عز وجل، هي طابة، هي طابة} رواه أحمد وأبو يعلى وابن شبة برجال ثقات.
وأما ذكرها في القران الكريم بيثرب، فإنما هو حكاية عن المنافقين، كما في قوله تعالى: ((وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)) [الأحزاب:12] *((وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا)) [الأحزاب:13].
فقوله تعالى: ((طَائِفَةٌ مِنْهُمْ)) [الأحزاب:13[أي من المنافقين، فهم الذين يقولون.
وانظر قوله صلى الله عليه وآله وسلم - كما مر في حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أمرت بقرية... يقولون: يثرب، وهي المدينة) فالمنافقون هم الذين يقولون: يثرب. لذا فليحذر المسلم من مناداتها بهذا الاسم. وانظر (فضائل المدينة) فقد بينت سبب ذلك، والله أعلم.
8- المفاضلة بينهما:
لقد اختلف أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم في المفاضلة بينهما، وألخص الأقوال كالآتي: - وقد بينت ذلك في فضائل المدينة -:
1- انعقد الإجماع على تفضيل مكة والمدينة على سائر البلاد.
2- انعقد الإجماع على تفضيل ما ضم الجسد الشريف على سائر الأمكنة، حتى على الكعبة المشرفة. وذلك لأن أصل خلقته صلى الله عليه وآله وسلم من تلك التربة. لأن الإنسان لا يقبر إلا في الموضع الذي خلق منه - كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، والذي فيها سيق} من