بوابة الحرمين الشريفين
الحرمان في الكتاب والسنة
حديث القران عن المسجد الحرام

(حديث القرآن عن المسجد الحرام):
إن المتدبر في آيات القرآن الكريم، يراها قد اهتمت بالحديث عن المساجد بصفة عامة، وعن المساجد الحرام بصفة خاصة.
ومن مظاهر هذا الاهتمام، أن القرآن الكريم، قد نوه بعلو شأنها كما في قوله تعالى: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)) [النور:38]
كذلك من مظاهر هذا الاهتمام، إن الله تعالى قد بين أن هذه المساجد التي تقام فيها العبادات، يجب ان تنسب إليه وحده، وأن تنزه عن أن يوجد فيها ما يتنافي مع دينه وشريعته فقال:)وان المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا).
وفي موضع ثالث نجد القرآن الكريم، قد مدح الذين يحرصون على تعمير المساجد، عن طريق بنائها، وتنظيفها، والتردد عليها لعبادة الله تعالى فقال سبحانه : ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)) [التوبة:18]
فإننا نرى ان الآية قد قصرت تعمير بيوت الله تعالى على المؤمنين الصادقين، وأن هذه المناقب التي وصفهم الله تعالى بها، كفيلة أن توصلهم إلى رضوانه وجنته، بفضله سبحانه ومشيئته.
وفي موطن رابع نرى القرآن الكريم يأمر كل مسلم عند توجهه لمساجد الله تعالى للصلاة، أن يتخذ زينته من اللباس المادي ومن اللباس المعنوي وهو التقوى قال تعالى : ((يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ...)) [الأعراف:31]) وفي موضع خامس نجد القرآن الكريم، ينهي المؤمنين عن مباشرة النساء في حالة اعتكافهم، فيقول سبحانه: ((وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)) [البقرة:187]، وذلك لأن الاعتكاف، لون من العبادة، والمساجد هي خير مكان للعبادة وهو لا يكون إلا فيها فيجب أن تكون منزهة عن شهوات النفس، وعن مقاربة النسا فيها.
وفي موطن سادس نرى القرآن الكريم يتوعد الذين يسعون في خراب مساجد الله بأشد ألوان الوعيد في الدنيا والآخرة فيقول: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [البقرة:114].
قال الأمام القرطبي:) وخراب المساجد قد يكون حقيقيا، كتخريب بختنصر والرومان لبيت المقدس، حيث قذفوا فيه القاذورات وهدموه، ويكون مجازا كمنع المشركين للمسلمين، حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، عن المسجد الحرام.
وعلى الجملة: فتعطيل المساجد عن الصلاة، وعن إظهار شعائر الإسلام فيها خراب لها).
والمعنى: لا أحد أظلم ممن حال بين المساجد وبين أن يعبد فيها الله تعالى ، وعمل على خرابها بطريق هدمها، أو بطريق تعطيلها عن إقامة العبادة فيها.
قال صاحب الكشاف: فكيف قيل: مساجد الله، وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس الحرام؟
قلت: لا بأس أن يجئ الحكم عاما، وان كان لسب خاص، كما تقول لمن آذى صالحا واحدا: ومن أظلم من آذى الصالحين، كما قال سبحانه: ((وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)) [الهمزة:1]، والمنزول فيه هو الاخنس بن شريق.
وقوله سبحانه: ((أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ)) [البقرة:114]، بيان لما يجب أن يكون عليه موقف المؤمنين، من مساجد الله، وفي صد الناس عنها.
أي: أولئك الذين يسعون في تخريب بيوت الله، ويحولون بينها وبين أن يذكر فيها اسم الله، أولئك لا يصح لهم أن يدخلوها إلا خائفين من الله تعالى لمكانها من الشرف والسمو والكرامة، حيث أضافها سبحانه إليه أو خائفين من المؤمنين الصادقين، من أن يبيطشوابهم دفاعا عن حرمة مساجد الله، فضلا عن محاولة الاستيلاء عليها ومنع المؤمنين من أقامة شعائر الله تعالى فيها.
ثم ختم سبحانه الآية ببيان سوء مصير هؤلاء الظالمين في الدنيا والآخرة، فقال تعالى : ((لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [البقرة:114].
أي: لهم في الدنيا هوان وذلة، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، وليس هناك أشقى ممن يعيش حياته في هوان وذلة، ثم ينتقل على أخراه فيجد العذاب الشديد الذي لا يموت معه ولا يحيا.
هذا جانب من حيث القرآن عن مساجد الله تعالى بصفة عامة، أما حدث القرآن عن المسجد الحرام بصفة خاصة فقد تكرر أكثر من خمسة عشر موضعا.. منها ما يتعلق بالأمر بالتوجه اليه عند الصلاة، ومنها ما يتعلق بوجوب تطهيره وصيانته من كل رجس، ومنها ما يتعلق بحكم القتال أو العهود عنده، ومنها ما يتعلق ببعض أحكام الحج والملابسة له، ومنها ما يتعلق بسمو مكانته وعلو قدرة، وسبقه لغيره في الفضل والشرف.
ففي سورة الحج، نجده حديثا مستفيضا في آيات متعددة، عن مكانة المسجد الحرام، وعن الأمر ببنائه، وعن وجوب الحج إليه، وعن سوء مصير كل من يحاول الانحراف عن الطريق القويم فيه، حتى ولو كان هذا الانحراف عن طريق النية السيئة فحسب.
وتبدأ هذه الآيات من سورة الحج، بقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ....)) [الحج:26].
قال ابن عباس رضي الله عنه هذه الآيات نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه، حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عن دخول المسجد الحرام، ومنعوه من الحج أو العمرة، فكرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم، وكان محرما بعمرة، ثم صالحوه على أن يعود للعمرة في العام القادم.
والمعنى: إن الذين أصروا على كفرهم بما أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم واستمروا على منع أهل الحق من أداء شعائر الله تعالى ومن الطوافَ بالمسجد الحرام.. إن هؤلاء الذين يفعلون ذلك، سوف ينزل بهم الخزي في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة.
قال: الأمام القرطبي: وقوله سبحانه: ((وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) [البقرة:217]، والمقصود به المسجد نفسه، وهو الظاهر لأنه لم يذكر غيره.
وقيل المراد به: الحرام كله، لان المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجا عنه..
وهذا صحيح، لكنه سبحانه قصد هنا بالذكر الأهم وهو المسجد الحرام.
وقوله سبحانه : و ((الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)) [الحج:25]، تشريف لهذا المكان، حيث جعل سبحانه الناس تحت سقفه سواء وتشنيع على الكافرين الذين صدوا الناسَ عنه.
أي: جعلنا هذا المسجد الحرام للناس على العموم، يصلون فيه، ويطوفون به، ويحترمونه، ويستوي تحت سقفه من مكان مقيما في جواره، وملازما للتردد عليه، ومن كان زائرا له، وطارئا عليه من أهل البوادي، أو من أهل البلاد الأخرى سوى مكة.
4 وقوله سبحانه : ((وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)) [الحج:25]، تهديد لكل من يحاول ارتكاب شيء نهَى الله عنه في هذا المسجد الحرام.
والإلحاد: الميل. يقال: الحد حلان في دين الله، أي: مال وحاد عنه.
أي: ومن يرد فيه هذا المسجد الحرام الحادا، أي ميلا وحيدة عن أحكام الشريعة وآدابها، سبب ظلمة وخروجه عن طاعتنا، نذقه من عذاب أليم لا يقادر قدره، ولا يكتنفه كنهه.
وقد جاء هذا التهديد في أقصى درجاته، لأن القرآن الكريم قد توعد بالعذاب الأليم، كل من ينوى ويريد الميل فديه عن دين الله، وإذا كان الأمر كذلك، فمن ينوى ويفعل يكون عقابه أشد، ومصيره أقبح.
ويدخل تحت هذا التهديد، كل ميل من الحق إلى الباطل، كالنطق بالأقوال الباطلة، وكترويج المذاهب الفاسدة، والأفكار التي بها الدعاية لشخص معين، أو لحزب معين..
لأننا لو أبحنا ذلك في المسجد الحرام أو في الأماكن المقدسة، لأصبحت هذه الأماكن مساحة للدعايات الشخصية أو الطائفية أو المذهبية.. وهذه الأماكن اشرف واسمى واجل أن تكون ساحة لأمثال هذه الشعارات التي لم يقصد بها وجه الله تعالى وإنما قصد بها المنافع الشخصية أو المذهبية والله تعالى يقول: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) [الجن:18]، ولقد رجح الإمام ابن جرير: أن المراد بالظلم هنا معناه العام، فقال بعد أن ذكر جملة من الأقوال : وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب: القول الذي ذكرناه من أن المراد بالظلم في هذا الموضع، كل معصية لله تعالى ؛ وذلك لأن الله عم بقوله: ((وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ)) [الحج:25]، ولم يخصص ظلماً دون ظلم في خير ولا عقل، فهو على عمومه.
فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام: ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم، فيعصى الله تعالى فيه، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له)( ).
ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن بناء البيت الحرام وعن تطهيره، فقال تعالى: ((وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا..)) [الحج:26].
وقوله سبحانه: (بوأنا) من التبوء، بمعنى: النزول في المكان، يقال: بوأ فلان فلاناً منزلاً، إذا أسكنه فيه وهيأه له ومكنه منه.
والمعنى: واذكر أيها العاقل لتتعظ وتعتبر، وقت أن هيأنا لنبينا إبراهيم عليه السلام مكان بيتنا الحرام، وأرشدنا إليه؛ لكي يبنيه بأمرنا، وأوصيناه بعدم الإشراك بنا، كما أوصيناه بأن يطهر هذا البيت من الأرجاس الحسية والمعنوية الشاملة للكفر والبدع والضلالات والنجاسات، كما أمرناه بأن يجعله مهيأ للطائفين به وللقائمين فيه لأداء فريضة الصلاة.
قال الشوكاني: والمراد بالقائمين في قوله تعالى : ((وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ)) [الحج:26]، والمراد بهم: المصلون.
وذكر: ((وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) [الحج:26] بعده؛ لبيان أركان الصلاة، وللدلالة على عظم شأن هذه العبادة.
وقرن سبحانه الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا في البيت الحرام، إذ الطواف لا يكون إلا من حوله، والصلاة لا تكون إلا إليه)( ).
هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة، أنه لا يجوز أن يترك عند بيت الله الحرام، قذر من الأقذار، ولا نجس من الأنجاس الحسية والمعنوية، فلا يترك فيه أحد يرتكب ما لا يرضي الله، ولا أحد يلوثه بقذر من النجاسات.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد توعدت كل من يصد الناس عن هذا البيت وكل من ينوى فيه سوءا، وبينت أن الله تعالى قد أمر نبيه إبراهيم عليه السلام بتطهيره من كل رجس حسي أو معنوي.
وفي سورة البقرة نجد آيات متعددة تحدثنا عن مكانة البيت الحرام، وعن قصة بنائه، وعن الدعوات الخاشعات التي كان إبراهيم عليه السلام يتضرع بها إلى الله تعالى عند رفعه لقواعد البيت الحرام.
ومن هذه الآيات قوله تعالى: ((وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ...)) [البقرة:125].
وقوله سبحانه ((مَثَابَةً لِلنَّاسِ)) أي: مرجعا للناس يرجعون إليه من كل جانب، ومثابة القوم إلى المكان، إذا رجعوا إليه، ولاذوا به عند خوفهم، ويصح أن يكون معناه: موضع ثواب لهم سبب حجهم واعتمارهم فيه.
والأمن: السلامة من الخوف، وأمن المكان يتمثل في اطمئنان أهله، وعدم خوفهم من أن ينالهم مكروه، فالبيت أمن، أي: موضع أمن.
وأخبر سبحانه بأنه جعله أمنا، ليدل على كثرة ما يقع فيه من الأمن، حتى صار كأنه الأمن نفسه.
وكذلك صار البيت الحرام محفوظا بالأمن من كل ناحية، فقد كان الناس في الجاهلية يقتتلون ويعتدي بعضهم على بعض من حوله، أما أهله فكانوا في أمان واطمئنان.
وقد أكد القرآن الكريم هذا المعنى في أكثر من آية، ومن ذلك قوله تعالى ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ..)) [العنكبوت:67] وقد أقرت تعاليم الإسلام، هذه الحرمة للبيت الحرام، على وجه لا يضيع حقا، ولا يعطل حدا، وزادت في تكريمه وتشريفه، بأن جعلت الحج إليه فريضة على كل مستطيع له.
قال الأمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية الكريمة: [[ومضمون ما فسر به العلماء هذه الآية، أن الله تعالى يذكر شرف البيت، وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا، من كونه مثابة للناس]].
أي: جعله محلا تشتاق إليه الأرواح، ونحن إليه، ولا تقضي منه وطرا ولو ترددت إليه في كل عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليلة إبراهيم، في قوله: ((رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)) [إبراهيم:37]، ويصفه تعالى بأنه جعله أمنا، لأن من دخل أمن على نفسه..
قال عبد الرحمن بن زيد بن اسلم: [[كان الرجل يلقي قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يتعرض له...]].
وقوله سبحانه : ((وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)) [البقرة:125]، أمر منه تعالى لعباده بعمل صالح يتقربون به إليه.
والاتخاذ هنا معناه الجعل، تقول: اتخذ فلانا صديقا له، أي: جعله صديقا له، والمقام في اللغة: موضع القدمين، ومقام إبراهيم: هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه عند بناء الكعبة، حين ارتفع الجدار، وهو على المشهور تحت المصلى المعروف الآن بهذا الاسم.
ومعنى اتخاذ مصلى منه: القصد إلى الصلاة عنده، فقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الأمام مسلم في صحيحه، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [[طاف بالبيت سبعا،وصلى خلف المقام ركعتين]].
ومن العلماء من فسر)مقام إبراهيم) بالمسجد الحرام، ومنهم من أطلقه على الكعبة لأن إبراهيم عليه السلام كان يقوم عندها لعباده الله تعالى قال الأمام ابن كثير: وقد كان هذا المقام أي: الحجر الذي يسمى مقام إبراهيم ملصقا بجدار الكعبة قديما، ومكانة معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر، على يمين الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك.
وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت قد وضعه على جانب جدار الكعبة.
ثم قال ابن كثير رحمه الله : [[وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه]] الآن عمر رضي الهذ عنه، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة.
ثم بين سبحانه ما أوحاه إلى إبراهيم عندما أمره ببناء هذا المسجد الحرام فقال ((عَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) [البقرة:125].
وأضاف سبحانه البيت إليه للتشريف والتكريم.
والمتدبر في هذه الآية الكريمة، يراها قد جسمت أصناف العابدين في البيت الحرام:
وهم الطائفون: الذي يتقربون إلى الله تعالى بالطواف حول البيت وإن لم يكونوا مقيمين من حوله، كمن يأتون من كل فج عميق لحج أو عمرة، ثم ينصرفون راجعين إلى بلادهم بعد أدائهم لهذا المناسك.
العاكفون: وهم الذين يقيمون بالحرم ومن حوله، بقصد الإكثار من العبادة في المسجد الحرام.
الركع السجود: وهم المصلون الذين يتقربون إلى الله تعالى بالصلوات سواء أكانت هذه الصلوات فرضا أم نفلا.
ثم ساق سبحانه بعد ذلك نماذج من الدعوات كالتى تضرع بها إبراهيم إلى ربه، خلال بنائه للبيت الحرام، فقال تعالى: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) [البقرة:129].
والمتدبر في هذه الآيات الكريمة، يرى فيها أسمى ألوان التضرع، وأزكى أنواع الدعاء، وأعلى ألوان الدعاء
فإن سيدنا إبراهيم يرجو من ربه في هذا الدعاء، أن يجعل الموضع الذي فيه بيته، مكانا يأنس إليه الناس، ويؤمنون فيه من الخوف، ويجدون فيه كل ما يبتغون من أمان واطمئنان.
ثم هو في الدعوة الثانية التي تضرع بها لله ربه، يسأله أن يرزق المؤمنين من أهل هذا البلد وهو مكة أن يرزقهم من الثمرات ومن الخيرات ما يسد حاجتهم ويغنيهم عن الاحتياج إلى غيره.
وخص إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم، حرصا على شيوع الإيمان بين سكانه مكة لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم، إنما هي خاصة بالمؤمنين تجنبوا ما يبعدهم عن الإيمان، ولأن في هذا الدعاء ما فيه من الأدب مع الله تعالى
وفي الدعوة الثالثة نرى سيدنا إبراهيم عليه السلام يتضرع إليه تعالى ومعه ابنه إسماعيل، بقولهما: يا ربنا تقبل منا أقوالنا وأعمالنا إنك أنت السميع لدعائنا، العليم بأحوالنا.
وتصدير الدعاء بندائه سبحانه باسم الرب المضاف إلى ضميرهما مظهر من مظاهر خضوعهما له، وإجلالهما لمقامه، والخضوع له تعالى وإجلال مقامه: من اسنى الآداب التي تجعل الدعاء مستجابا عنده عز وجل.
وختما دعاءهما بذكر اسمين من أسمائه الحسنى؛ ليؤكدان رجاءهما في استجابة الدعاء والثقة وأن ما عملاه من بنائهما للمسجد الحرام جدير بالقبول؛ لأن من كان سميعاً لدعاء الداعين، عليماً بنيات العاملين، كان تفضله باستجابة دعاء المخلصين في طاعته غير بعيد، فهو القائل: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)) [البقرة:186].
وأما الدعوة الرابعة فقد تضمنت مجموعة من الدعوات الخاشعات التي توجه بها إبراهيم وإسماعيل إلى ربهما، فقد قالا كما حكى القرآن عنهما : ((رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)) [البقرة:128] أي: اجعلنا يا إلهنا مخلصين لك في عبادتنا، واجعل من ذريتنا من يخلص لك العبادة والطاعة.
((وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)) [البقرة:128] أي: وعلمنا شرائع ديننا تعليماً تاماً وافياً.
((وَتُبْ عَلَيْنَا)) [البقرة:128]، ((إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)) [البقرة:286] و((إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) [البقرة:128]، ثم ختما هذه الدعوات بدعوة فيها خيرهم وخير من جاء بعدهم في الدنيا والآخرة، فقالا: ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ..)) [البقرة:129].
أي: يا ربنا نسألك كذلك أن تبعث في ذريتنا رسولا منهم، يقرأ عليهم آياتك، الدالة على وحدانيتك، ويعلمهم كتابك، بأن يبين لهم معانيه، ويرشدهم إلى ما فيه من حكم ومواعظ وآداب، كما يهديهم إلى الحكمة التي تتمثل في اتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم والتي بها يتم التفقه في الدين، ومعرفه أسراره، وحكمه ومقاصده، والتي بها يكمل العلم بالكتاب إنك يا مولانا أنت العزيز الحكيم.
وقد جاء ترتيب هذه الجمل في أسمى درجات البلاغة والحكمة؛ لأن أول تبليغ الرسالة يكون بتلاوة القرآن، ثم بتعليم معانية، ثم بتعليم العلم النافع الذي تحصل به التزكية والتطهير من كل ما لا يليق التبس به في الظاهر أو الباطن.
ولقد حقق الله تعالى دعوة هذين النبيين الكريمين، فأرسل في ذريتهما رسولا منهم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وصدق صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {إنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى،ورؤيا أمي التي رأت..}.
وفي سورة آل عمران آيتان كريمتان، دلتا دلالة واضحة على أفضلية المسجد الحرام، على غيره من المساجد، وهاتان الآيتان هما قوله تعالى ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)) [آل عمران:97].
والمراد بالأدلة في قوله تعالى ((أن أول بيت))، أنه أول بيت وضعه الله تعالى لعبادته في الأرض.
و((ببكة))، لغة في مكة عند الأكثرين والياء والميم تعقب أحدهما الأخرى كثيرا، ومنه قولهم: النميط والنبيط وهما اسم لموضع واحد.
وقيل: هما متغايران: فبكة اسم لموضع المسجد، ومكة: أسم للبلد بكاملها واصل كلمه بكة من البك، وهو التزاحم، يقال: تباك القوم إذا تزاحموا، وكأنها سميت بذلك، لأن الجبابرة تندق أعناقهم، إذا أرادوها بسوء.
والمعنى: أن أول بيت وضعه الله تعالى للناس في الأرض ، ليكون متعبدا لهم، هو البيت الحرام الذي بمكة، حيث يزدحم الناس أثناء طوافهم من حوله، وقد أتوا الله إليه ماشين على أقدامهم، أو راكبين على رواحلهم، من كل فج عميق، لشهدوا منافع لهم.
أخرج الشيخان عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله [[أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة]] ثم قال: {حيثما أدركتك الصلاة فصل، والأرض لك مسجدا}.
قالوا: وقد أشكل فهم هذا الحديث على من لم يعرف المراد منه فقال: معلوم أن سليمان ابن داود، هو الذي بنى المسجد الأقصى، والذي بنى المسجد الحرام، هو إبراهيم وابنه إسماعيل.
وبينهما وبين سلميان أكثر من ألف سنة، فيكف قال صلى الله عليه وسلم أن بين المسجدين أربعين سنة؟
والجواب: أن الوضع غير البناء، فالذي أسس المسجد الأقصى ووضعه في الأرض بأمر من الله تعالى هو يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم وبين إبراهيم ويعقوب هذه المدة التي جاءت في الحديث.
أما سليمان فلم يكن مؤسسا للمسجد الأقصى أو واضعا له، وإنما كان مجددا له، فلا أشكال ولا منافاة.
ثم مدح الله تعالى بيته بكونه ((مباركاً)) أي: كثير الخير دائمة، من البركة وهي النماء والزيادة والدوام.
أي: أن هذا البيت كثير الخير والنفع لمن حجة أو أعتمره أو أعتكف فيه، أو طاف حوله، بسبب مضاعفة الأجر، وإجابة الدعاء، وتكفير الذنوب، لمن قصده بإيمان وإخلاص وطاعة لله رب العالمين.
وأن هذا البيت في الوقت ذاته وفيه البركات المادة والمعنوية.
فمن بركاته المادية: قدوم الناس إليه من مشارق الأرض ومن مغاربها ومعهم خيرات الأرض، يقدمونها على سبيل تبادل المنفعة تارة، وعلى سبيل الصدقة تارة أخرى.
ومن بركاته المعنوية: أنه أكبر مكان لأكبر عبادة جامعة للمسلمين، وهي فريضة الحج، وإليه يتجه المسلمون في صلاتهم، على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأماكنهم.
ثم مدحه ثانيا بأنه ((هدى للعالمين)) أي: هو بذاته مصدر هداية للعالمين، لأنه قبلتهم ومتعبدهم، وفي استقباله توجيه للقلوب والعقول إلى الخير، وإلى ما يوصلهم إلى رضا الله وجنته.
ثم مدحه ثالثا بقوله: ((فيه آيات بينان)) أي: فيه علامات ظاهرات، ودلائل واضحات تدل على شرف منزلته، وعلو مكانته ثم بين سبحانه بعض هذه الآيات الدالة على عظمة وشرفه فقال به مقام إبراهيم، ومن دخلة كان آمنا).
فالعلامة الأولى الدالة على عظم وشرف المسجد الحرام) مقام إبراهيم) أي: المقام المعروف بهذا الاسم، هو الموضع الذي كان يقوم إبراهيم تجاه الكعبة لعبادة الله تعالى، ولإتمام بناء الكعبة، ومعنى: أن في البيت مقام إبراهيم، أي: أنه في فنائه ومتصل به.
والعلامة الثانية التي تدل على فضل هذا البيت وشرفه، بينها سبحانه في قوله: ((وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)) [آل عمران:97] أي: ومن التجأ إليه أمن من التعوض له بالأذى أو القتل.
ولا شك أن في أمن من دخل هذا البيت أكبر آية على تعظيمه وعلى علو مكانته عند الله.
ولقد وضع الإسلام هذه الميزة للبيت الحرام وهي أمان من دخله وضع له من الضوابط والأحكام، ما يجعل استعمالها في الوجوه التي شرعها الله عز وجل.
فقد اتفق الفقهاء على أن من جنى في الحرم جناية، فهو مأخوذ بها، سواء أكانت في النفس أم فيما دونها.
واختلفوا فيمن جنى جناية في غير الحرم ثم لاذ إليه:
فقال أبو حنيفة وابن حنبل : إذا قتل القاتل في غير الحرم ثم دخل الحرم لا يقتص منه ما دام في الحرم، ولكن لا يجالس ولا يعامل ولا يؤاكل إلى أن يخرج منه، فيقتص منه.
وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه.
وقال مالك والشافعي: يقتص في الحرم لذلك كله، كما يقتص منه في الحل.
ومن هذا العرض نرى أن القرآن الكريم، قد تحدث حديثاً مفصلاً عن البيت الحرام.
حديثاً يدل على علو شأن هذا البيت وعلى سمو مكانته.
حديثاً يدل على وجوب تطهيره من كل رجس سواء أكان حسيا أم معنوياً.
حديثاً يأمر فيه أمراً صريحاً بوجوب التوجه إليه عند الصلاة.
حديثا يأمر فيه بتأديب الذين يسيؤن إليه بأي لون من ألوان الإساءة، وبمنعهم من دخوله أو الاقتراب منه متى ثبت إصرارهم على باطلهم وعلى ضلالهم.
حديثا يتوعد الله تعالى كل من لا يحترم هذا البيت بسوء المصير في الدنيا والآخرة.
ويعد الذين يدافعون عن حرماته، وينزلون المنزلة اللائقة به من التشريف والتكريم، بأجزل الثواب، وأعلى الدرجات.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم منهم.