بوابة الحرمين الشريفين
الحرمان في الكتاب والسنة
الحرمان في الكتاب والسنة

الباب الأول
بدء أمر الكعبة المشرفة
بدء أمر الكعبة المشرفة:
قال الله تعالى: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا)) [آل عمران:96] الكعبة هي جدر أربعة أقيمت في المسجد الحرام سميت بها لتربيعها، والعرب تسمى كل بيت مربع كعبة وتحقيقها مذكور، ومن المشهور أنه كانت في الجزيرة العربية بيوت كثيرة عرفت ببيوت الله أو البيوت الحرام يقصدها الحجاج في مواسم معلومة من سكان البقاع العربية وكانت أشهرها في الجزيرة العربية الأقصير، وبيت ذي الخلصة، وبيت صنعاء، وبيت رضا، وبيت نجران، وأذكرها جميعاً وأبقاها بيت مكة، وكان لكل بيت من هذه البيوت شأن مختص محدود فكانت بيت الأقيصر في مشارف الشام مقصد القبائل من قضاعة، ولخم وعاملة يحجون إليها ويلقون رئسهم عنده، وبيت ذئا لخلصة كان يسمى الكعبة اليمانية وهو بيت أصنام كان للأوس وخثعم وغيرهم بين مكة واليمن وهذا البيت
الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله بهدمه من بعد فتح مكة فهدمه بعد دفاع شديد وكانت بصنعاء بيت رشامم يحجون إليه وينحرون عنده حتى هدم بعد إنتشار اليهودية في اليمن. وبيت رضا كان لبني ربيعة بن كعب وقد هدمه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم مستوغر بن ربيعة، وأما بيت نجران فهو بيت بنوه على بناء الكعبة وعظموها مضاهاة لها وسموها كعبة نجران وكان فيها أساقفة وهم الذين جاء النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى المباهلة وقد اجتمع لبيت مكة ما لم يجتمع لبيت آخر في أنحاء الجزيرة العربية لأن مكة كانت ملتقى طرق القوافل ولم يكن فيها سيادة قاهرة ولا دولة قائمة فيها.
قال الله تعالى: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا)) [آل عمران:96].
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: تأويله أول بيت وضع للناس يعبد الله فيه مباركاً وهدى للعالمين الذي ببكة، قالوا: وليس هو أول بيت وضع في الأرض لأنه قد كانت قبله بيوت كثيرة.
وفي رواية حدثنا هناد بن السري قال حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى علي فقال: ألا تخبرني عن البيت أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال: لا، ولكنه أول بيت وضع في البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً.
وفي رواية: هو أول بيت وضع للناس مباركاً وهدىً، وفي رواية عن أبي رجاء قال: سأل حفص الحسن وأنا أسمع عن قوله: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا)) [آل عمران:96]، هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض.
وفي رواية قد كانت قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للعبادة يعبد الله فيه.
وفي رواية وضع للعبادة( ) .
ثم اختلف قائلو ذلك في صفة وضعه أول فقال بعضهم: خلق قبل جميع الأرضين ثم دحيت الأرضون من تحته ذكر من قال ذلك.. حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال حدثنا عبد الله بن موسى قال: أخبرنا شيبان عن الأعمش عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: {خلق الله البيت قبل..
..الأرض ألفي سنة}( ) وكان أركان عرشه على الماء زبدة بيضاء فدحيت الأرض من تحته، وفي رواية ثم دحي الأرض من تحتها ففي رواية ذكر فيه أما أول بيت فإنه يوم كانت الأرض ماء كان زبدة على الأرض فلما خلق الله الأرض خلق البيت معها فهو أول بيت وضع في الأرض.
حدثنا حسن بن يحيى قال أخبرنا معمر، قال قتادة في قوله تعالى: ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا)) [آل عمران:96]، قال أول بيت وضعه الله عز وجل فطاف به آدم ومن بعده.
وقال آخرون موضع الكعبة، موضع أول بيت وضعه الله في الأرض.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة ذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط قال أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي فطاف حوله آدم، ومن كان بعده من المؤمنين حتى إذا كان زمن الطوفان أغرق الله قوم نوح رفعه الله وطهره من أن يصيبه عقوبة أهل الأرض، فصار معموراً في السماء ثم إن إبراهيم تتبع منه أثراً بعد ذلك، فبناه على أساس قديم كان قبله( ) . والصواب من القول في ذلك ما قال جل ثناؤه فيه إن أول بيت مباركاً وهدىً وضع للناس للذي ببكة، ومعنى ذلك أن أول بيت وضع للناس أي لعبادة الله
فيه مبارك وهدى يعني بذلك ومآباً لنسك الناسكين، وطواف الطائفين تعظيماً لله إجلالاً له للذي ببكة، لصحة الخير بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ما حدثنا به محمد بن المثنى قال حدثنا ابن عدي عن شعبة عن سلمان عن إبراهيم التميمي، عن أبيه عن أبي ذر قال: {قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام، قال: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قال: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة}.
وعن مجاهد قال تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل فأنزل هذه الآية، وقال مجاهد: هذا خلق الله موضع هذا قبل أن يخلق شيئاً من الأرض بألفي سنة وإن قواعده لفي الأرض السابعة( ) ، السفلى وأما المسجد الأقصى فبناه سليمان عليه السلام كما خرجه النسائي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو وعن النبي صلى الله عليه وسلم وإن سليمان بن داود عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالاً ثلاثة: سأل الله عز وجل( ) حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه( ) إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه وأبته. فجعل أشكال بين الحديثين لأن بين إبراهيم وسليمان آمادً طويلة قال أهل التواريخ أكثر من ألف سنة فقيل: إن إبراهيم وسليمان عليهما السلام إنما جددا ما كان أسسه غيرهما( ) ، قال أبو عبيدة والفراء معناه أساساه وقال الكسائي هي الحدر والمعروف أنها الأساس وفي الحديث: إن البيت لما هدم أخرجت منه حجارة عظام فقال ابن الزبير هذه القواعد التي رفعها إبراهيم عليه السلام وقيل إن القواعد كانت قد اندرست فأطلع الله إبراهيم عليه السلام عليها.
كلمة تحقيق بكة:
قوله تعالى: ((لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا)) [آل عمران:96] بكة موضع البيت ومكة سائر البلد. عن مالك بن أنس أو قال محمد بن شهاب: بكة: المسجد، ومكة الحرم كله تدخل فيه البيوت. قال مجاهد: بكة هي مكة فالميم على هذا مبدلة من الباء كما قالوا: طين لازب ولازم. وقال الضحاك والمؤرج ثم قيل: بكة مشتقة من البك وهو الازدحام، تباك القوم ازدحموها، وسميت ببكة لازدحام الناس في موضع طوافهم. والبك دق العنق، وقيل: سميت بذلك لأنها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحد فيها بظلم، قال عبد الله بن الزبير: لم يقصدها جبار قط بسوء إلا وقصمه الله عز وجل( ) ، وأما مكة فقيل: إنها سميت بذلك لقلة مائها وقيل: سميت بذلك (لأنها تمك المخ من العظم مما ينال قاصدها من المشقة من قولهم مككت العظم إذا أخرجت ما فيه ومك الفيصل ضرع أمه وأمتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وشربه).
قال الشاعر: مكت فلم تبق في أجوافها دراراً. وقيل: سميت بذلك لأنها تمك من ظلم فيها أي: تهلكه وتنقصه، وقيل: سميت بذلك لأن الناس كانوا يمكون ويضحكون فيها من قوله: ((وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً )) [الأنفال:35] أي: تصفيقاً وتصفيراً، وهذا لا يوجبه التصريف لأن مكة ثنائي مضاعف ومكاء ثلاثي معتل البكة المعنى استقر( ) .
للذي ببكة مباركاً: يعني للبيت الذي يزدحم الناس لطوافهم في حجهم وعمرهم وأصل البك الزحم يقال منه بك فلان وفلاناً إذا زحمه وصدمه 

((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ)) [آل عمران:96]
روى ابن حاتم والأزرقي عن كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه قال: كان البيت غثاء على الماء قبل تخليق الله الأرض بأربعين عاماً ومنه دحيت الأرض، وفي رواية: دحيت الأرض من تحت الأرض، هذا الكلام بجيد ولا بصحيح. وروى ابن جرير تحت الآية الكريمة بقوله: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَات)) [البقرة:29] قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئاً غير ما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضاً واحدة ثم شقها فجعل سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين فخلق الأرض على حوت والحوت هو النون الذي ذكره الله في القرآن الكريم: ((ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)) [القلم:1]، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة( ) على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السموات ولا في الأرض فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت، فالجبال تفخر على الأرض فذلك قوله تعالى: ((وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ )) [النحل:15]، وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين الثلاثاء والأربعاء وذلك حين يقول: ((قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ العالمين)) [فصلت:9].
وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها( )، وقدر فيها أقواتها( )، في أربعة أيام سواء للسائلين( )، ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ)) [فصلت:11] وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة وإنما سمي يوم الجمعة؛ لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض: ((وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا)) [فصلت:12]، خلق في كل سماء خلقها من الملائكة الخلق الذي فيها، من البحار وجبال البرد وما لا يعلم ثم زينا السماء الدنيا بالكواكب فجعلها زينة وحفظ نحفظ من الشياطين فلما فرغ من خلقه ما أحب استوى على العرش، فذلك حين يقول خلق السموات والأرض في ستة أيام يقول: ((كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)) [الأنبياء:30]( ) ذكر القرطبي في تفسير ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ)) [فصلت:11]، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة ثم بين الاختلاف ثم ذكر خلق السموات أولاً أو خلق السماء أو لا؟
وعن ابن عباس في قوله حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء ثم ذكر السماء قبل الأرض وذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحولها قبل السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ثم دحى الأرض بهذا ذلك ولذلك( ) قوله: ((وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)) [النازعات:30].
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على الأربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألف عام ثم دحيت الأرض من تحت البيت وذكر بعض أهل العلم أن (بعد) في موضع (مع) كأنه قال والأرض مع ذلك دحاها كما قال الله تعالى: ((عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)) [القلم:13]، ومنه قولهم: أنت أحمق وأنت بعد هذا سبي الخلق. قال الشاعر:
فقلت لها عني إليك فإنني حرام وإني بعد ذاك لبيب
أي مع ذلك لبيب وقيل: بمعنى قيل كقوله تعالى: ((وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ)) [الأنبياء:105]، أي من قبل الفرقان قال أبو خراش الهذلي حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا خراش وبعض الشراهون من بعض، وزعموا أن خراشاً نجا قبل عروة وقيل (دحاها) حرشها وشقها قال ابن زيد وقيل: (دحاها) مهدها للأقوات والمعنى متقارب( ) بهذه الآية على تقدم خلق السماء على خلق الأرض فخالفوا صريح الاثنين المتقدمين ولم يفهموا هذه الآية الكريمة فإن مقتضى هذه الآية أن دحي الأرض وإخراج الماء والمرعى منها بالفعل بعد خلق السماء وقد كان ذلك مقدراً فيها بالقوة كما قال الله تعالى: ((وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا )) [فصلت:10]
أي: هيأ أماكن الزرع، ومواضع العيون والأنهار ثم لما أكمل خلق صورة العالم السفلي والعلوي دحي الأرض فأخرج منها ما كان مودعاً فيها فخرجت العيون وجرت الأنهار، ونبت الزرع، والثمار ولهذا فسر دحي بإخراج الماء والمرعى منها وأرسى الجبال فقال: ((وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)) [النازعات:30] * ((أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا)) [النازعات:31].
وقوله: ((وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)) [النازعات:32] أي: أقررها في أماكنهـا التي وضعها فيها وبنتها وأكدها وقوله: ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)) [الذاريات:47] * ((وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ)) [الذاريات:48] * ((وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) [الذاريات:49].
بأيد أي: بقوة وإنا لموسعون وذلك أن كل ما علا اتسع وكل سماء أعلى بنت التي تحتها فهي أوسع منها وقوله ((وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا)) [الذاريات:48] أي: بسطناها وجعلناها مداً أي تراها ساكنة وغير مضطربة ولا مائدة بكم ولهذا قال: ((فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ)) [الذاريات:48]، والواو لا تقتضي الترتيب في الوقوع وإنما تقتضى الإخبار المطلق في اللغة.
وقوله: ((الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا)) [البقرة:29]، قال أبو جعفر فمعنى الكلام إذا هو الذي أنعم عليكم وسخر لكم تفضلاً منه بذلك عليكم ليكون لكم بلاغاً في دنياكم ومتاعاً إلى موفاة آجالكم ودليلاً على وحدانية ربكم ثم على السموات السبع وهي دخان فسواهن وحبكهن وأجرى في بعضهن شمسه وقمره وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلته( ) .
قال الله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) [البقرة:29]. وقال تعالى: ((قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [فصلت:9] * ((وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ)) [فصلت:10] * ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)) [فصلت:11] * ((فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)) [فصلت:12].
فهذا يدل على أن الأرض خلقت قبل السماء لأنها كالأساس للبنيان كما قال تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [غافر:64].
وقال الله تعالى: ((أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا)) [النبأ:6] * ((وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)) [النبأ:7] إلى أن قال: ((وَبَنَيْنَا)) [النبأ:12]
((وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا)) [النبأ:12] * ((وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا)) [النبأ:13].
وقال تعالى: ((أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ)) [الأنبياء:30]، أي فصلناهما ما بين السماء والأرض حتى هبت الرياح ونزلت الأمطار وجرت العيون والأنهار وانتعش الحيوان ثم قال: ((وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ)) [الأنبياء:32]، أي عما خلق فيها من الكواكب الثواتب والسيارات والنجوم الزاهرات والأجرام النيرات وما ذلك من الدلالات على حكمة خالق الأرض والسماوات كما قال الله تعالى: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)) [يوسف:105] * ((وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)) [يوسف:106]، فأما قوله تعالى: ((أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا)) [النازعات:27] * ((رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا)) [النازعات:28] * ((وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا)) [النازعات:29]. * ((وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)) [النازعات:30] * ((أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا)) [النازعات:31] * ((وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)) [النازعات:32] * ((مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)) [النازعات:33]، فقد تمسك بعض الناس بهذه الآية.
والصواب من تلك الآيات القرآنية الثابتة أن أول ما خلق ما ذكر من الآيات والأحاديث أن أول الخلق الأرض أول ما بنيت بناها للعبادة هو البيت المبارك أي للعبادة لله تعالى فيه مبارك وهدى يعني بذلك وما بالنسك الناسكين وطواف الطائفيين تعظيماً وإجلالاً للذي ببكة لصحة الخبر بذلك والله أعلم بالصواب.
وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة يوم فتح مكة: {إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض} ولم تحرم مكة إلا لوجود الكعبة المعظمة فيها ولا شك أن الكعبة موجودة من بدء الخلق وإنما الخلاف في أول من بناها وقد ذكرت بيان هذا وقد روى القرطبي والأزرقي وياقوت الحموي والحافظ ابن حجر والحافظ ابن كثير وغيرهم وروى الحافظ في تفسير قول الله تعالى: ((قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا)) [البقرة:30]، الآية قال: دحيت الأرض من مكة وأول من طاف بالبيت الملائكة، وروى البغوي في تفسيره إن الله وضع تحت العرش بيتاً وهو البيت المعمور فأمر الملائكة أن يطوفوا به ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتاً على مثاله وقدره فبنوه وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوفوا أهل السماء بالبيت المعمور وذكر أكثر المحدثين والمصنفين من أهل العلم في مصنفاتهم أن الكعبة (أول بيت وضع على وجه الأرض) وقد ذكرت تفصيلاً قبل هذا.
وفي رواية أن آدم عليه السلام طاف بالبيت حين أنزل ثم صلى ركعتين ثم أتى الملتزم فقال: اللهم أنت تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي تعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي وتعلم حاجتى فأعطني سؤلي. اللهم إني أسألك إيمانً يباشر قلبي ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي قال فأوحى الله إليه يا آدم دعوتني بدعوات فاستجبت لك ولن يدعوني بها أحد من ولدك إلا كشفت به همومه وغمومه قال فمذ طاف آدم كانت سنة الطواف فهذه روايات أتت عن كل الصحابة والتابعين وأهل الثقة من أصحاب السير والتاريخ.
وروى عن الإمام الباقر أنه قال: [[كنت مع علي الحسين بمكة فبينما هو يطوف بالبيت وأنا وراءه إذ جاء شرجع من الرجال فوضع يده على ظهر أبي فالتفت أبي إليه فقال الرجل: السلام عليك يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمات إلى الرجل فجلس بين يدي أبي فقال له أبي: من أين أنت؟ قال: من أهل الشام قال: أين مسكنك؟ قال: في بيت المقدس، قال: فهل قرأت التوراة والإنجيل؟ قال: نعم، قال: أما بدأ هذه الطواف فإن الله قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. وقد ذكرت سابقاً مفصلاً فأخيراً فقال الرجل صدقت يا لين رسول الله]].
وعن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال في قوله تعالى: ((إِذْ قَالَ رَبُّكَ)) [البقرة:30]، الآية إلى قوله: ((وَنُقَدِّسُ لَكَ)) [البقرة:30]، قال كان في فعلهم هذا منة منهم على الله بعبادتهم وإنما قال ذلك بعض الملائكة لما عرفوا من حال من كان في الأرض من الجن قبل آدم فأعرض الله تعالى عنهم وخلق آدم وعلمه الأسماء كلها ثم قال للملائكة فقالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا، قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال له: اسجدوا لآدم فسجد الملائكة كلهم إلا إبليس وأما ما كتموه وقالوا في أنفسهم ما ظنوا الملائكة أن الله يخلق خلقاً أكرم عليه منا فعلموا أنهم قد وقعوا في الخطيئة فلاذوا بالعرش وطافوا حوله أي حول البيت المعمور يستر ربهم فرضي عنهم وأمر الله تعالى أن تبنى في الأرض بيتاً( ) ليطوفوا به من أصاب ذنباً من ولد آدم كما طافت الملائكة عنهم كما رضي عن الملائكة فبنوا مكان البيت بيتاً رفع زمان الطوفان وعلى أساسه وضع إبراهيم البيت فلما أصاب آدم الخطيئة وأهبطه الله تعالى الأرض أتى إلى البيت وطاف به كما رأى الملائكة طاف بالعرش سبعة أشواط ثم وقف عند المستجار فنادى: [رب اغفر لي فنودي آدم: قد غفر الله لك قال: يا رب ولذريتي فنودي: يا آدم من باء بذنبه من ذريتك حيث بؤت أنت بذنبك غفر الله له. وروى الإمام الصادق أنه قال: حججت مع والدي فطاف بالبيت ليلة الليالي وطفت معه ثم مال إلى الحجر فصلى وصليت معه حتى كللت فجلست وهو قائم يصلي إذ أقبل رجل فجلس إلى جنبه وهو يصلي فنظرت إلى رجل تام الخلقة جليل العظام أصهب اللون والشعر عليه ثوبان غليظان أبيضان فلما رآه أبي وقد جلس إلى جانبه أوجز في صلاته ثم سلم وأقبل عليه وقال له: هل لك من حاجة؟ قال: أتيتك أسألك عن بدء هذا البيت، قال له أبي: نعم إن الله لما خلق آدم وذكر قصته وما كان من أمر الملائكة وما قالوا له وقال لهم إني أعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.
وفي رواية ظن الملائكة أنهم قد وقعوا في الخطيئة فطافوا بالعرش ويقول يسترضون ربهم من غضبه ويقولون لبيك اللهم لبيك ربنا معذرة إليك نستغفرك ونتوب إليك فرضي عنهم وأوحى إليهم أن ابنوا لي بيتاً في الأرض يطوف به عبادي ممن أغضب عليه فارضي عنه كما رضيت عنكم كذا رواه الحافظ بن كثير في تفسيره.
وعن علي بن أبي طالب أنه قال: أوحى الله إلى إبراهيم أن ابني لي بيتاً في الأرض يعبد فيها فضاق به ذرعاً فبعث الله إليه السكينة وهي ريح لها رأسان يتبع أحدهما صاحبه فدارت على أساس البيت الذي بنته الملائكة من دعاء الإسلام.

الباب الثاني
في عدد المرات التي بني فيها البيت
المرة الأولى: عمارة الملائكة:
روى الأزرقي عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أن رجلاً سأله: ما بدء هذا الطواف بهذا البيت فإن الله تعالى قال للملائكة: ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً )) [البقرة:30]، كما ذكرت هذا من قبل تفصيلاً ثم إن الله تعالى قال: ابنوا لي بيتاً في الأرض بمثاله وقدره وهذا كما ذكرت أخبار مكة للأزرقي 1/2.
المرة الثانية: عمارة آدم صلى الله عليه وسلم:
روى البيهقي في الدلائل عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بعث الله تعالى جبرائيل عليه السلام إلى آدم وحواء عليهما السلام فقال لهما ابنيا لي بيتاً فخط جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل حتى أجابه الماء ونودي من تحته حسبك يا آدم. فلما بناه أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت (وضع) ثم تناسخت القرون حتى حج نوح ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد من البيت}.
وروى الأزرقي وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية كبيرة قال في آخره: حتى انتهى إلى مكة فبنا البيت الحرام -وإن جبرائيل عليه السلام ضرب بجناحيه الأرض فأبرز عن أسس ثابتة على الأرض السابعة فقدمت فيه الملائكة الصخرة منها ثلاثون رجلاً، وأنه بناءه من خمسة أجبل من لبنان، وطور سينا، والجودي، وحراء حتى استوى على وجه الأرض فكان أول من أسس البيت وصلى فيه، وطاف به آدم صلى الله عليه وسلم حتى بعث الله تعالى الطوفان وكان غضباً ورجساً ورحباً، فحيثما انتهى الطوفان ذهب ريحاً إلى آدم صلى الله عليه وسلم ولم يقرب الطوفان أرض السند والهند فدرس موضع البيت في الطوفان حتى بعث الله تعالى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فرفعا قواعده وأعلامه( ) .
المرة الثالثة: عمارة أولاد آدم صلى الله عليه وسلم:
روى الأزرقي وابن المنذر عن وهب بن منبه - رحمه الله - أن آدم صلى الله عليه وسلم لما توفي رفعه الله تعالى إليه الخيمة التي تقدم ذكرها قال بنو آدم من بعدها مكانها بيتاً بالطين والحجارة فلم يزل معموراً يعمرونه حتى كان ومن نوح فنسفه الغرق وخفي مكانه( ).
وذكر البيهقي رحمه الله تعالى أن الذي بناه بن آدم هو شيث بن آدم صلى الله عليه وسلم.
المرة الرابعة: عمارة سيدنا إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم:
جزم ابن كثير بأن الخليل أول من بنا البيت مطلقاً، وقال: إنه لم يثبت خبر عن معصوم إن البيت كان مبنياً قبل الخليل( ) .
فلما بلغ إسماعيل ثلاثين سنة وإبراهيم ابن ليب بيتاً فقال إبراهيم أي رب أين ابنيه فأوحى الله تعالى إليه أن اتبع السكينة وهي ريح لها وجه وجناحان ومع إبراهيم الملك والصرد فانتهوا إلى مكة.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما ثم عنهم إبراهيم ما شاء الله تعالى ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاله تحت دوحة قريباً من زمزم فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الولد بالوالد والوالد بالولد، وقال إبراهيم عليه السلام لولده إسماعيل: يا إسماعيل إن الله تعالى أمرني بأمر، فقال: اصنع ما أمرك به. قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال فعند ذلك رفع القواعد من البيت.
وفي حديث أبي جهيم فنزل إسماعيل إلى موضع البيت الذي بوأه الله تعالى لإبراهيم وموضع البيت ربوه حمراء مدة مشرفة على ما حولها فحفر إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليه وسلم وليس معهما غيرهما أساس البيت فحفر عن ربض البيت يعني حوله فوجدا صخرة لا يطيقها إلا ثلاثون رجلاً وحفرا حتى بلغا أساس آدم صلى الله عليه وسلم وفي حديث ابن عباس عند الإمام أحمد بسند صحيح أن القواعد التي رفعها إبراهيم كانت قواعد البيت قبل ذلك.
وفي لفظ آخر إن القواعد كانت في الأرض السابعة رواه ابن أبي حاتم. وفي لفظ ابن عباس رضي الله عنهما فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى ارتفع البناء فجاء بهذا الحجر أي المقام فوضعه له فقام عليه إبراهيم عليه السلام وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) [البقرة:127].
وفي حديث أبي جهيم وحلقت الكعبة كأنها سحابة على موضع البيت فبنا إبراهيم البيت فجعل طوله في الأرض اثنين وعشرين ذراعاً وأدخل الحجر وهو سبعة أذرع في البيت وكان قبل ذلك زرباً لغنم إسماعيل وإنما بناه بحجارة رأه بعضها على بعض ولم يجعل له سقفاً وجعل له بابين وحفر له بئراً عند بابه خزانه للبيت يلقي فيها ما يهدى للبيت وجعل الركن علماً للناس، فذهب إسماعيل إلى الوادي يطلب حجراً ونزل جبرائيل عليه السلام بالحجر الأسود وكان قد رفع إلى السماء حين غرقت الأرض لما رفع البيت فنزل به جبرائيل فوضعه إبراهيم موضع الركن فقال من أين هذا الحجر من جاءك به قال إبراهيم من: يكني إليك ولا إلى حجرك ولما فرغ إبراهيم من بناء البيت وأدخل الحجر في البيت جعل المقام لاصقاً بالبيت عن يمين الداخل.( )
وروى البيهقي عن وهب بن منبه - رحمه الله تعالى - قال: لما أغرق الله الأرض رفع البيت فوضع تحت العرش ومثت الأرض خراباً ألفي سنة. فلم تزل على ذلك حتى كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم فأمره الله سبحانه وتعالى أن يبني بيته فجاءت السكينة كأنها سحابة فيها رأس يتكلم ولها وجه كوجه الإنسان فقالت: يا إبراهيم خذ قدر ظلي فابن عليه ولا تزد شيئاً ولا تنقص. فأخذ إبراهيم قدر ظلها ثم بنا هو وإسماعيل البيت ولم يجعل له سقفاً وكان الناس يلقون فيه الحلي والمتاع حتى إذا كاد أن يمتلئ ذلك اتعد( ) له خمسة نفر ليسرقوا ما فيه، فقام كل واحد على زاوية واقتحم الخامس فسقط على رأسه فهلك، وبعث الله تعالى سحابة: عند ذلك حية بيضاء سوداء الرأس والذنب فحرست البيت خمسمائة عام لا يقربه أحد إلا أهلكته، فلم تزل كذلك حتى بنته قريش.
وروى الأزرقي عن عثمان بن ساج - رحمه الله تعالى - بلغنا - الله أعلم – أن خليل الله سبحانه وتعالى عرج به إلى السماء فنظر به إلى السماء فنظر إلى الأرض مشارقها ومغاربها فاختر موضع الكعبة، فقالت له الملائكة: يا خليل الله اخترت حرم الله في الأرض فبناه من خمسة أجبل، ويقولون سبعة، فكانت الملائكة تأتي بالحجارة إلى إبراهيم من تلك الجبال( ).
وروى الأزرقي عن قتادة - رحمه الله تعالى - قال: ذكر لنا أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم بنا البيت من خمسة أجبل: من طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان، وحراء( )، وجودي.
قال السهلي - رحمه الله تعالى-: انتبه لحكمته تعالى كيف بناها من خمسة أجبل فشا كل ذلك معناها إذ هي قبلة الصلوات الخمس والسكينة من شأن الصلوات قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فأتوها وعليكم السكينة}( ).
وذكر في الروض الأنف للسهلي( ) : فلما بلغ إبراهيم الركن جاء جبرائيل بالحجر الأسود من جوف أبي قبيس.
وروى الترمذي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أنزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بني آدم}.
روى الترمذي أيضاً من طريق عبد الله بن عمرو مرفوعاً: {أن الركن الأسود والركن اليماني ياقوتتان من الجنة، ولو لا طمس نورها لأضاءتا المشرق والمغرب}، وفي رواية غيره: {لأبر من استلهما من الحرس والجذام والبرص}. وروى الترمذي من طريق علي - رحمه الله تعالى - أن العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم حين مسح ظهره ألا يشركوا به شيئاً كتبه الله في صك وألقمه الحجر الأسود ولذلك يقول المستلم له: إيماناً بك ووفاء بعهدك. وذكر هذا الخبر الزبير وزاد عليه أن الله سبحانه وتعالى أجرى نهراً أطيب من اللبن من الزبد فاستمد منه القلم الذي كتب المهد قال: وكان أبو قبيس يسمى الأمين الركن كان مودعاً فيه وأنه نادى إبراهيم حين بلغ بالبنيان إلى موضع الركن فأخبره عن الركن فيه. ودل على موضعه منه واتبه من هنا إلى الحكمة في أن سودته خطايا بني آدم دون غيره من حجارة الكعبة وأستارها وذلك أن العهد الذي هو الفطرة التي فطر الناس عليها من توحيد الله تعالى {فكل مولود يولد على الفطرة وعلى ذلك الميثاق فلو لا أن أبويه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه}.
حتى يسود قلبه بالشرك لما حال عن العهد قد صارت قلب ابن آدم محلاً لذلك العهد والميثاق، فتناسيا فاسود من الخطايا قلب ابن آدم بعد ما كان ولد عليه من ذلك وأسود الحجر بعد ابيضاضه وكانت الخطايا سبباً في ذلك حكمة من الله تعالى، فهذا ما ذكره في بنيان الكعبة ملخصاً منه ما ذكر الماوردي، والطبري، من كتاب فضائل مكة ومن كتاب أبي الوليد الأزرقي أخبار مكة ومن أحاديث في المستندات المروية.
إبراهيم يؤذن بالحج:
روى ابن شيبة وابن منبع وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما فرغ إبراهيم صلى الله عليه وسلم من بناء البيت قال يا رب قد فرغت. قال: أذن في الناس بالحج قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي البلاغ قال: يا رب كيف؟ وأقول قال: قل أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق.
((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)) [الحج:27]

إبراهيم يتعلم مناسك الحج:
قال أبو جهيم: فلما فرغ إبراهيم من الأذان ذهب به جبرائيل فأراه الصفا والمروة وأقامه على حدود الحرم وأمره أن ينصب عليه الحجارة ففعل ذلك إبراهيم وكان أول من قام أنصاب الحرم فلما كان اليوم السابع من ذي الحجة خطب إبراهيم صلى الله عليه وسلم بمكة. حين زاغت الشمس قائماً وإسماعيل جالس ثم خرجا من الغد يمشيان على أقدامهما يلبيان محرمين، مع كل واحد منهما أداة يحملها وعصا يتوكأ (يتوكأ) عليها فسمى ذلك اليوم يوم التروية وأتيا منى فصليا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح وكانا نزلا من الجانب الأيمن ثم أقاما حتى طلعت الشمس على ثبير ثم خرج إبراهيم يمشي هو وإسماعيل حتى أتيا عرفة وجبرائيل معهما يريهما الأعلام حتى نزلا بنمرة وجعل يريه أعلام عرفات وكان إبراهيم قد عرفها قبل ذلك قال إبراهيم عرفت فسميت عرفات.
المرة الخامسة والسادسة: عمارة العمالقة وجرهم:
روى ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في سنده وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن علي رضي الله عنه، أن بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم لبث ما شاء الله أن يلبث ثم انهدم فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته جرهم.
وقال السهلي وقد قيل إنه بني في أيام جرهم مرة أو مرتين لأن السيل قد صدع حائطه ولم يكن ذلك بنياناً وإنما كان إصلاحاً وجداراً بني بينه وبين السيل وإن البيت في زمن جرهم دخله السيل من أعلى مكة فانهدم فأعادته جرهم على بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
باب ما جاء في مسألة إبراهيم خليل الله الأمن والرزق لأهل مكة شرفها الله تعالى والكتب التي وجد فيها تعظيم الحرم عن عثمان بن ساج قال أخبرني موسى بن عبيدة الربزي عن محمد بن كعب القرطبي قال: دعا إبراهيم عليه السلام للمؤمنين وترك الكفار لم يدع لهم بشيء فقال الله تعالى: ((وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ)) [البقرة:126]، قال ومن أسلم سأل إبراهيم عليه السلام ذلك لمن آمن به ثم مصير الكافر إلى النار قال عثمان أخبرني محمد بن السايب الكليبي قال: قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) [البقرة:126]، فاستجاب الله عز وجل له. فجعل بلداً آمناً وأمّن فيه الخائف ورزق أهله من الثمرات، تحمل إليهم من الآفاق. قال عثمان وقال مقاتل بن حبان إنما اختص إبراهيم في مسألته في الرزق للذين آمنوا فقال تعالى الذين كفروا فسأرزقهم مع الذين ولكن أمتعهم قليلاً في الدنيا ثم اضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير، قال عثمان: قال مجاهد: جعل الله هذا البلد آمناً لا يخاف فيه من دخله( ).
وفي رواية بعض ولد نافع بن جبير بن مطعم وغيره يذكرون أنهم سمعوا أنه لما دعاء إبراهيم لمكة أن يرزق أهله من الثمرات نقل الله عز وجل أرض الطائف من الشام فوضع هناك رزقاً، وفي رواية سمعت الزهري يقول: إن الله عز وجل نقل قرية من قرى الشام فوضعها الله بالطائف لدعوة إبراهيم خليل الله قوله وارزق أهله من الثمرات( ).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال وجد في المقام كتاب (هذا بيت الله الحرام بمكة توكل الله برزق أهله من ثلاثة سبل، مبارك لأهلة في اللحم والماء واللبن لا يحله أول من أهله) ووجد في حجر في الحجر كتاب من خلقه الحجر (إنا لله ذو بكة الحرام وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر وخفقها سبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى تزول أشبها مبارك لأهلها في اللحم والماء)( ).
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما هدموا الكعبة البيت وبلغوا أساس إبراهيم وجدوا في حجر من الأساس كتاباً فدعوا له رجلاً من أهل اليمن، وآخر من الرهبان فإذا فيه (إنا لله ذو بكة حرمتها يوم خلقت السماوات والأرض والقمر ويوم وضعت هذين جبلين وحففتها سبعة أملاك حنفاء)( ).
وفي رواية يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد أنه حدثه أنهم وجدوا في بئر الكعبة في نقضها كتابين من صفر مثل بيض النعام مكتوب في إحداها: (هذه بيت الله الحرام رزق الله أهله العبادة لا يحل أول من أهله)( ).
ذكر ولاية بني إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام الكعبة بعده وأمر جرهم:
عن عبد الله بن معاذ الصنعاني عن معمر عن قتادة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لقريش أنهم كان ولاة هذا البيت قبلكم طسم فاستخفوا بحقه، واستحلوا حرمته فأهلكهم الله لأنهم لم يعظموا حرمته( ) إن إسماعيل عليه السلام لما توفي دفن مع أمه فولي البيت ثابت بن إسماعيل فولي البيت بعده مضاض بن عمرو الجرهمي وهو جد ثابت بن إسماعيل إليه وبني إسماعيل إليه فما فصاروا مع جدهم أبي أمهم مضاض بن عمرو ومع أخوالهم من جرهم وجرهم وفطورا يومئذ أهل مكة وعلى جرهم مضاض بن عمرو ملكا عليهم، وعلى فطور رجل منهم يقال له السميدع ملكاً عليهم.
وكان السميدع يمنع من دخل مكة من أسفلها كدي، ونزل مضاض بن عمرو أعلى مكة وكل على قومه على جباله لا يدخل واحد منهما على صاحبه في مكة ثم إن جرهما وفطورا يعني بعض على بعض وتنافسوا الملك واقتتلوا بها حتى نشبت الحرب أو بينهم على الملك وولاة الأمر بمكة مع مضاض بن عمرو بنو نابت بن إسماعيل وبنو إسماعيل واليه ولاية البيت دون السميدع فلم يزل بينهم البغي أخيراً ثم إن التزم تداعوا للصلح فساروا حتى نزلوا لمطابخ شعباً بأعلى مكة وأسلموا الأمر إلى مضاض بن عمرو الجرهمي فلما جمع إليه أمر أهل مكة وصار ملكها له دون السميدع نحر للناس كلهم فأكلوا. فكان الذي كان بين مضاض بن عمرو والسميدع أول بغي كان بمكة هي تلك الحرب يذكر السميدع، وقتله، وبغيه، والتماسه ما ليس له( ).
قال بعض أهل العلم كانت العمالقة وهم ولاة الحكم بمكة فضيعوا حرمة البيت الحرام واستحله فيه أموراً عظاماً ونالوا ما لم يكونوا ينالون فقام رجل منهم يقال له عموق، فقال: يا قوم ابقوا على أنفسكم فقد رأيتم وسمعتم من هلك في صدر الإسلام قبلكم قوم هود، وصالح وشعيب، فلا تفعلوا، وتوصلوا تستخفوا بحرمة الله وموضع بيته وإياكم والظلم والإلحاد فيه فإنه ما سكنه أحد قط فظلم فيه وألحد إلا قطع الله دابرهم واستأصل شافتهم وبدل أرضها غيرهم حتى لا يبقى لهم باقية فلم يقبلوا ذلك منه وتمادوا في هلكة أنفسهم فنازعتهم العماليق فمنعتهم جرهم وأخرجوهم من الحرم كله فكانوا في أطرافة لا يدخلونه فقال لهم صاحبهم عموق ألم أقل لكم لا تستخفوا بحرمة الحرم فغلبتموني فلم يزل أمر جرهم تعظيم بمكة فكانوا ولاته وحجابه وولاة الأحكام بمكة فجاء سبل فدخل البيت فانهدم فأعادته جرهم على بناء إبراهيم عليه السلام وكان طوله في السماء تسعة أذرع.
باب ما ذكر من ولاية خزاعة الكعبة بعد جرهم وأمر مكة:
عن عثمان بن ساج عن الكلبي عن أبي صالح قال: لما طالبت ولاية جرهم استحلوا من الحرم أموراً عظاماً ونالوا مالا يكونوا ينالون واستخفوا بحرمة الحرم وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها سراً وعلانية ولكم عدا سفيه منهم على منكر وجد من أشرافهم من يمنعه ويدفع عنه وظلموا من دخلها من غير أهلها حتى دخل رجل منهم بامرأته الكعبة فيقال فجربها قبلها فمسخا حجرين فرق أمرهم فيها وضعفوا وتنازعوا أمرهم بينهم واختلفوا وكانوا قبل ذلك من عرض في العرب وأكثرهم رجالاً وأموالاً وسلاحاً وأعز عزة، فلما رأى ذلك رجل منهم يقال له مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو قام فيهم خطيباً فوعظ وقال: يا قوم ابكوا على أنفسكم وراقبوا الله في حرمه وأمنه فقد رأيتم وسمعتم من هلك من صدر هذه الأمم قبلكم، قوم هود وقوم صالح، وشعيب، فلا تفعلوا وتواصلوا بالمعروف وانتهوا عن المنكر